صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

«خطة» ترمب بين الوهم والحقيقة ولا حل غير حل الدولتين!

لعل، بل المؤكد، أن أهم مفاجآت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا العام هي اعتراف دونالد ترمب بحل الدولتين للقضية الفلسطينية ومطالبة الإسرائيليين بتقديم «شيء جيد» للفلسطينيين؛ الأمر الذي يعتبر تطوراً هائلاً وفي غاية الأهمية، وهذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الرئيس الأميركي قد دأب منذ وصوله إلى البيت الأبيض على استفزاز الشعب الفلسطيني والأمة العربية وكل من تهمهم هذه القضية في العالم بأسره باتخاذ وطرح حلول تعجيزية لا هي معقولة ولا مقبولة، أسوؤها نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، والاعتراف بها عاصمة «موحدة» لإسرائيل.
ولعل ما يثير الكثير من الأسئلة والتساؤلات، هو أن الرئيس الأميركي قد دفع ما أشار إليه وأكد عليه بعيداً عندما قال إن «خطة السلام» التي تحدث عنها آنفاً ستنشر في غضون شهرين أو أربعة أشهر، وأنه سيسعى إلى تسوية هذا الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، الذي هو صراع شرق أوسطي في غضون ما تبقى من ولايته الأولى، مع عدم الإفصاح عن حتى ولو الحد الأدنى من الخطوط العامة، إنْ على هذا الصعيد وإنْ في هذا المجال!
والسؤال الذي يتبادر على الفور إلى الأذهان، هو هل أن دونالد ترمب، الكثير التردد، الذي دأب على تغيير قراراته ومواقفه وتوجهاته قبل أن يتلاشى صداها وقبل أن يجف الحبر الذي كتب به، وهذا هو إن قدمها وأعلنها مكتوبة، سيصمد هذه المرة وسيطبق خطته الآنفة الذكر التي من المؤكد أنها ستواجه تحديات كثيرة، وبخاصة أنه من غير الممكن أن يقبل بها الفلسطينيون ما لم يكن هناك تراجع عن اعتبار مدينة القدس الموحدة، أي الغربية والشرقية، عاصمة لدولة إسرائيل.
وفي البدايات، ومع الأخذ بعين الاعتبار أن كل ما طرحه الرئيس الأميركي هو مجرد بدايات ومجرد عناوين يحتاج القبول بها فلسطينياً وعربياً، وأيضاً أوروبياً وعالمياً، إلا أنه لا بد من البحث جدياًّ فيما دفع دونالد ترمب إلى هذه «المفاجأة» التي اختار اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة لإعلانها، اللهم إلا إذا كان قد «فاتح» بها مسبقاً بعض القادة العرب وبعض كبار المسؤولين في الدول المعنية، وبأنه لا بد من إيجاد حلٍّ مقبول للقضية الفلسطينية ولهذا الصراع المتواصل منذ عام 1948.
إن هناك من يرى ويعتقد جازماً أن الرئيس الأميركي قد تعرض إلى ضغوطات جادة، من قبل بعض المحيطين به، وبخاصة بعض كبار جنرالات الجيش وبعض كبار مسؤولي الأجهزة الأمنية، ومعهم بعض القادة العرب وأيضاً بعض رؤساء الدول الأوروبية وبعض رموز المعارضة الإسرائيلية الذين يعتبرون أنفسهم امتداداً لرئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين ولآرائه وقناعاته بالنسبة للحل والسلام مع الفلسطينيين، وإنه استجابة لكل هذه الضغوطات قد بادر إلى إعلان قناعته بحل الدولتين من دون أي من الإيضاحات الضرورية واللازمة، ومع دفع الأمور بعيداً بإشارته إلى أن خطة السلام، التي اكتفى بالإعلان عنها باختصار شديد وذكر بعض عناوينها، سوف تنشر في غضون شهرين أو أربعة أشهر... وأنه سيسعى إلى هذه التسوية خلال ما تبقى من ولايته الأولى.
وهكذا، وعلى هذا الأساس، فإن الواضح أن ترمب في ضوء تطورات الأشهر الأخيرة في سوريا وفي العراق وفي الشرق الأوسط كله قد اقتنع، خلافاً للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، بأن هذه المنطقة الشرق أوسطية هي منطقة مصالح حيوية لبلاده ولفترة مقبلة طويلة، وهنا فإن المؤكد أن عودة الروس وبكل هذه القوة وبكل هذا الثقل العسكري والسياسي والاستخباراتي إلى شرق البحر الأبيض المتوسط امتداداً إلى إيران واليمن، قد دفعت الرئيس الأميركي إلى التخلي عن تردده السابق، وبخاصة أن سوء الإدارة السابقة، إدارة باراك أوباما، وارتباك إدارته منذ البدايات وحتى الآن قد دفعت تركيا، العضو المؤسس في حلف شمال الأطلسي وصاحبة الجيش الذي يعتبر القوة العسكرية الثانية في هذا الحلف بعد الجيش الأميركي، إلى الدائرة الروسية ودفعت الرئيس رجب طيب إردوغان إلى أحضان فلاديمير بوتين الذي يعتبر نفسه أهم القياصرة الروس، وأيضاً أهم من جوزيف ستالين الذي كان الرئيس الأقوى في الحقبة السوفياتية.
وفوق هذا كله، فإن ما عزز قناعة الأميركيين بأن مستجدات الأعوام الثمانية الأخيرة، حيث الوجود العسكري الروسي في سوريا غدا مؤشراً على أن البحر الأبيض المتوسط قد يصبح بحراً روسيّاً، وأن هذه المنطقة قد تصبح مجالاً حيوياً لروسيا الاتحادية، أنهم باتوا يشعرون بأن إسرائيل أصبحت تشكل عبئاً ثقيلاً عليهم، وأنه للتخلص من هذا العبء وتخفيفه على الأقل فإنه لا بد من حل عاجل لأزمة الشرق الأوسط، التي تجاوز عمرها السبعين عاماً، وعلى أساس حل الدولتين، دولة فلسطينية إلى جانب الدولة الإسرائيلية، لكن ما عرضه ترمب في هذا المجال حتى الآن لا يبعث على الاطمئنان؛ وهذا هو ما جعل الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) لا يراهن كثيراً، بل لا يطمئن إطلاقاً إلى أن ما أعلنه الرئيس الأميركي ووعد بأنه سيبادر إلى نشر تفاصيله، في هيئة خطة سلام في غضون شهرين أو أربعة أشهر... وأنه سيسعى إلى تسوية لهذا الصراع خلال ولايته الأولى!
وهنا، فإن ما يسترعي المزيد من الانتباه أن بنيامين نتنياهو قد بادر فوراً ومن دون أن يتلاشى صدى تصريح دونالد ترمب المشار إليه آنفاً إلى رفض الالتزام بحل الدولتين، وإلى القول إنه لا يريد إطلاقاً شعارات، بل يرغب في الحديث عن «فحوى» وهو قد قال، من قبيل تحاشي أي مواجهة مع الرئيس الأميركي، إنه يقبل بدولة فلسطينية «لا تشكل تهديداً» لإسرائيل؛ ولهذا فإنه أكد في حديث تلفزيوني على أن السيطرة الأمنية في «المنطقة»، أي في الأراضي الفلسطينية التي احتلت في عام 1967، يجب أن تكون إسرائيلية، وإنَّه «لا الأمم المتحدة ولا الشرطة الكندية ولا أياًّ كان لا قوات نمساوية ولا أسترالية، إنَّ من يتولى الأمن هو القوات الإسرائيلية ولا أحد سواها»، وبالطبع؛ فإن الفلسطينيين قد رفضوا هذه الشروط المسبقة وقال الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبو ردينة «لن نقبل إلا بدولة مستقلة ذات سيادة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية».
وعليه؛ فإن ما يؤكد أن هناك خلافات فعلية بين الإسرائيليين بالنسبة لعملية السلام وحل الدولتين أن رئيسة المعارضة الإسرائيلية وزيرة خارجية إسرائيل السابقة تسيبي ليفني قد طلبت من الرئيس محمود عباس (أبو مازن) بإنهاء القطيعة مع الإدارة الأميركية والعودة للحوار معها من أجل العمل على تعزيز خيار الدولتين، كما يجب عدم اللجوء إلى الخطوات أحادية الجانب وإلى سياسة تكسير الأطباق... إن هذا سيسبب الآلام للأجيال المقبلة، وسيؤدي إلى تدهور الأوضاع وفقدان السيطرة في المنطقة وضياع فرصة حل الدولتين، وتجدر الإشارة هنا أيضاً إلى أن رئيسة حزب ميرتس اليساري تمارا زاندبرغ قد وجهت رسالة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي قالت فيها: يا بيبي أَسَمِعْت... الدولتان مصلحة إسرائيلية.
والواضح أن هناك كثيرين يريدون من الرئيس الفلسطيني أن يأخذ بالحكمة القائلة «إنك إن لم تستطع أن تكسب الخصم فحيّده»، والحقيقة أن «أبو مازن» يعرف هذا ويدركه، وأنه أشار في خطابه في الأمم المتحدة إلى أن أكثر من أربعين في المائة من الإسرائيليين ضد بنيامين نتنياهو وتوجهاته، وأنه على تواصل مستمر مع المعارضة الإسرائيلية بقواها الرئيسية، وأن هناك توجهاً نحو حل الدولتين، وحقيقة أن مثل هذا التوجه بات ملموساً، وأنه لم يعد هناك من يؤيد رئيس الوزراء الإسرائيلي إلا المستوطنون ومجموعات اليمين المتطرف وحزب «الليكود»؛ مما يعني أنه لا بد من التفكير ملياًّ ومطولاً قبل الإعلان من قبل الطرف الفلسطيني بإنهاء اتفاقيات أوسلو وإدارة الظهر لعملية السلام... وأيضاً بالاستمرار في مقاطعة الإدارة الأميركية.
وعليه، وفي النهاية، فإن الواضح، بل المؤكد أن هناك تحولات إيجابية في إسرائيل نفسها، وربما في الولايات المتحدة والعالم بأسره بالنسبة لإيجاد حلول مقبولة ومعقولة لهذا الصراع المحتدم في الشرق الأوسط وعلى أساس حل الدولتين؛ مما يستدعي ألا تستعجل القيادة الفلسطينية في اتخاذ خطوات غير محسوبة العواقب.