عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

وحل السياسة

في كثير من الأحيان لكي تصل إلى الحقيقة عليك أن تنزع الكثير من القشور من كلام السياسيين. خذ على سبيل المثال المعركة المحتدمة حالياً في بريطانيا داخل حزب المحافظين الذي تقوده رئيسة الوزراء تيريزا ماي، وكذلك المعركة بين الحزب ومنافسه حزب العمال بقيادة جيريمي كوربن. فظاهر هذه المعركة هو الصراع حول ملف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) وكيفية معالجته وحماية مصالح البلد والناس، لكنها في الواقع أصبحت معركة من أجل السلطة بامتياز. كل طرف من الأطراف يحاول استخدام الملف كقفاز ملاكمة يصرع به خصمه أو خصومه وعينه على منصب رئاسة الحكومة.
تيريزا ماي منذ استفتاء عام 2016 الذي صوّت فيه البريطانيون بنسبة بسيطة على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وهي تقاتل للسيطرة على حزبها والحفاظ على منصبها في ظل الصراعات المحتدمة داخله وحوله بين دعاة «بريكست» ومعارضيه. جرّبت كل شيء بما في ذلك الدعوة إلى انتخابات مبكرة العام الماضي حسبت أنها سوف تعزز بها موقعها وتسكت خصومها، لكنها خسرت مقاعد وباتت أضعف من ذي قبل، حتى وصفها بعض المعلقين بأنها «امرأة تنتظر الإعدام»، وهي عبارة مشتقة من اسم فيلم أميركي. وخلال مؤتمر حزب المحافظين الذي اختتم أمس، انفجر الصراع بينها وبين وزير خارجيتها السابق بوريس جونسون الذي يقود جناحاً للمتشددين المطالبين بتنفيذ «بريكست»، وإسقاط الخطة التي أقرتها الحكومة للتوصل إلى تسوية مع الاتحاد الأوروبي.
المضحك أن جونسون الذي لا يخفى على أحد أنه يحلم منذ زمن بالوصول إلى رئاسة الحزب والحكومة، وقاد خلال الأسابيع القليلة الماضية حملة منسقة ضد ماي توّجها بخطاب ناري أول من أمس ضد سياستها في ملف «بريكست»، رد على أسئلة الصحافيين الذين سألوه عما إذا كان خطابه إعلاناً لمسعاه في الوصول إلى الزعامة، بقوله إنه لا يريد الإطاحة برئيسة الوزراء، وإنما ضمان تنفيذ الخروج من الاتحاد الأوروبي بحلول نهاية مارس (آذار) المقبل. جونسون أصلاً لم يكن من أنصار الخروج من الاتحاد الأوروبي، وانضم إلى هذا المعسكر متأخراً قبل استفتاء 2016، وقيل وقتها إنه رآها فرصة تقوض سلطة رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون، وتهيئ له منافسته على الزعامة. وإذا صح أنه اتخذ «بريكست» مطية آنذاك، فإنه لا يزال يستخدمه في معركته داخل الحزب، وينتظر لحظة سقوط ماي.
المحافظون ليسوا وحدهم من يعانون من الانقسامات الداخلية، فحزب العمال أيضاً يواجه خلافات بسبب «بريكست»، ويحاول دفنها لكي لا تنسف فرصة يراها سانحة أمامه للعودة إلى الحكم إذا سقطت حكومة ماي وأجريت انتخابات عامة قريباً. وفي هذا الإطار، فإن زعيم الحزب جيريمي كوربن يستخدم أيضاً «بريكست» ورقةً لإضعاف المحافظين وإسقاط حكومتهم، وقد ظل يرفض لفترة طويلة دعوات من تيار قوي في الحزب يدعو للمطالبة بإجراء استفتاء شعبي ثانٍ على أي صفقة يتم التوصل إليها مع الاتحاد الأوروبي، ولم يوافق إلا على مضض وبعد ضغط شديد من بعض قواعده الشبابية. وكشف بعض أنصاره عن أن سبب معارضته هو أن الاستفتاء ربما يشكل مخرجاً لتيريزا ماي من ورطتها، ويمتص الغضب الشعبي المتزايد بسبب معالجتها للملف.
في كل هذه الحسابات تبدو المصالح السياسية في لعبة الكراسي والسلطة، متقدمة على هموم الناس والمخاوف المتزايدة على الاقتصاد البريطاني. فهناك سيناريوهات مرعبة عما يمكن أن يواجه بريطانيا في حال الخروج من الاتحاد الأوروبي من دون التوصل إلى اتفاق ينظم العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية المستقبلية. تقارير عدة منشورة وصادرة من جهات مختصة حذرت من أنه إذا حل يوم 29 مارس من دون اتفاق فإن الاقتصاد البريطاني بمجمله سيتضرر، وكذلك سوق لندن المالية، وسيهتز الجنيه الإسترليني. كذلك صدرت تحذيرات من أن حركة الطيران بين بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي ستتوقف مثلاً، وكذلك خطوط التصدير والاستيراد بما قد يؤدي إلى نقص في الغذاء والدواء على الرغم مما ذكر من أن الحكومة ستلجأ إلى تخزين كميات كبيرة لتفادي حدوث اضطرابات وتوترات شعبية. فبريطانيا تستورد نصف احتياجاتها من الغذاء، و70 في المائة من هذه الواردات مصدرها دول الاتحاد الأوروبي.
البريطانيون سيفقدون تبعاً لذلك حرية الحركة داخل الاتحاد الأوروبي، بينما قد تواجه قطاعات الصحة والزراعة والبناء نقصاً نتيجة لفقدان العمالة التي كانت تأتيها من دول الاتحاد الأوروبي الأخرى. الجامعات ومراكز البحث أيضاً ستتأثر نتيجة فقدان التمويل الذي كانت تتلقاه من ميزانية الاتحاد الأوروبي. الواقع، أن هناك أكثر من 76 ورقة صدرت تعدد المجالات التي يمكن أن تتأثر وترصد السيناريوهات المتوقعة لمواجهتها.
بريطانيا تغوص اليوم في وحل السياسة بينما تتعثر خطواتها في مفاوضات ستحدد مستقبلها لفترة طويلة قادمة. وبعد أن ضاع أكثر من عامين ونصف العام في المماحكات والصراعات بين السياسيين، ستحاول تيريزا ماي خلال هذا الشهر إقناع الزعماء الأوروبيين بقبول خطتها أو ملاقاتها في منتصف الطريق لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لكن المشكلة تبقى في انقسامات الطبقة السياسية في بريطانيا؛ فهي سبب أساسي في هذه الورطة.