نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

نتنياهو... الخطابان

كل كلمة ينطق بها نتنياهو في أي مكان يذهب إليه، هي من أجل حساباته الانتخابية، وفي خطابه التعليمي الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، تحدث كما لو أنه في حملة انتخابية في مستوطنة.
ناخبوه يحبون أسلوبه في الكلام، وينبهرون بحركاته الاستعراضية، ومن يتذكر آخر انتخابات في إسرائيل، كيف فاز وتفوق بفعل جملة واحدة قالها في الساعات الأخيرة يوم الانتخابات: «انظروا كيف يتدفق العرب على صناديق الاقتراع وأنتم غافلون»، فشعر المترددون بالخطر، وتدافعوا من جديد إلى صناديق الاقتراع، وصار الذي على وشك السقوط الفائز الأكبر في تلك الانتخابات.
لم يكن نتنياهو لينتبه إلى المقاعد الفارغة التي استقبلت خطابه التعليمي، كان مكتفياً؛ بل وسعيداً بمتابعة السيدة سارة لإبداعاته، وكذلك بمتابعة الوفد الأميركي؛ لأنه كان متأكداً أن الجمهور في إسرائيل يكفي ويزيد.
لا جديد في خطابه، كان إيرانياً بنسبة تسعين في المائة، ودعائياً للاستخبارات الإسرائيلية بنسبة مائة في المائة، أما الموضوع الفلسطيني الذي يفترض أن يقلقه ولو قليلاً، فقد أدار ظهره له وأسقطه من الخطاب، إلا بجمل قصيرة رد فيها على خطاب عباس الذي سبقه، وانتقد «حماس» بما هو أقل بكثير من إزعاجها له في حرب الإرباك الليلية، وبدا للمتابعين لخطابه، والذين توهموا أن يسمعوا بعض الجديد، أن القضية الفلسطينية ألغيت بقرار انتخابي من قبل رئيس الوزراء.
أما الخطاب الذي سبقه، خطاب الرئيس عباس، فيصدق عليه الوصف بجملة مختصرة: «نبرة عالية ومضمون معتدل».
النبرة العالية مردها خيبة الأمل ممن يخاطب، الذي هو الوهم، أي المجتمع الدولي، ولولا حرص الرئيس الفلسطيني على أن يتوغل كثيراً وعميقاً في اليأس، لتلا بيت الشعر الشهير:
لقد أسمعت لو ناديت حياً
ولكن لا حياة لمن تنادي
ومع علو النبرة الاحتجاجية والساخطة، فإن المراقبين السياسيين انتبهوا جيداً إلى المضمون الذي جسّد حرصاً علنياً على عدم مغادرة منطقة «أوسلو» إلى منطقة مغايرة، تجسد ذلك في لاءات قابعة لا تحتمل أي التباس:
لا للسلاح غير الشرعي، والمقصود هنا بالشرعي سلاح السلطة المتفق عليه أميركياً وإسرائيلياً.
ولا لمغادرة المفاوضات التي مهما تعثرت وتعطلت، فإنها تظل الخيار الأوحد في معالجة القضية الفلسطينية.
ولا للاحتكار الأميركي لجهود التسوية، وهذه الـ«لا» تقابلها «نعم» إيجابية، فلتشرك أميركا آخرين في العملية، وها هي الرباعية الدولية تقف خلف الباب منتظرة الدعوة.
غير أن اللاءات الثلاث، لم تتناقض مع عدة أبواب تركها عباس مواربة، تفضي جميعاً إلى أن خيار «أوسلو» ما زال صالحاً، إلا أنه بحاجة إلى بعض التعديلات، فما دام خيار «أوسلو» بلا بديل مجسم، فإن «أوسلو 2» مثلاً يمكن أن تجسد البديل، شريطة تفادي الثغرات التي بترت المسار وهو لا يزال في بداية الطريق.
ولكي يولد الفرع المشتق من الأصل، فالأمر بحاجة إلى مؤتمر دولي، مثل الذي حدث في نهاية عهد الرئيس بوش الابن، أي مؤتمر أنابوليس، الذي شارك فيه حتى غلاة الرافضين لـ«أوسلو» جنباً إلى جنب مع القابلين بها.
وليس مفهوماً أو مبرراً ألا يقبل الرئيس ترمب بهذه الصيغة، فهي بالأساس من صنع الجمهوريين، وليست من إرث الديمقراطيين الذي يعمل ترمب جاهداً من أجل محوه وإخراجه من التداول. غير أن عباس الذي ترك أبواباً كثيرة مواربة دون إغلاق محكم، يدرك أكثر من غيره أن الوقت لا يعمل لمصلحة خياراته وطلباته.
الكارثة ليست في الصدود الأميركي والإسرائيلي للصيغ الدولية التي يقترحها عباس ويتعاطف العالم كله معها؛ بل إن الكارثة هي ما تفعله إسرائيل على الأرض هنا، فهي تتأهب لوضع النقطة الأخيرة آخر السطر في الفصل الجغرافي بين شمال الضفة وجنوبها؛ حيث «الخان الأحمر» سيخلى، وبعد ذلك قد يُبدأ بتنفيذ مخطط «E1» الذي عطله أوباما كي لا تضرب جهود وزير خارجيته جون كيري التي أوصلها الكونغرس ونتنياهو إلى جدار مسدود، وليس «الخان الأحمر» وحده الذي سيزال بقرار قضائي ملزم للحكومة اليمينية؛ بل هنالك ترتيبات القدس التي خصصت لها موازنات بالمليارات لدمج شرقها مع غربها، كي تتكرس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل. ولا يغيب عن الذهن توصيف نتنياهو للكيان الفلسطيني الذي يستطيع تفهمه والقبول به وفق معادلة: «أكثر بقليل من حكم ذاتي، وأقل بكثير من دولة».
وغير القدس والضفة هنالك غزة، الورم الذي يقض المضاجع، ويبدو أن لا علاج له، فالمصالحة تقترب وتبتعد، والتهدئة كذلك، وآخر ما حرر أن نتنياهو الذي يحاصر غزة منذ إحدى عشرة سنة يطالب العالم ومحمود عباس بفك الحصار عنها.
عودة إلى الخطابين، فإن هنالك أمراً لم يبح به أي من الرجلين، فأمامهما شهران أو ثلاثة هي الفترة التي حددها ترمب لإعلان «صفقة القرن»، وخلال هذه الشهور سيعمل نتنياهو على استكمال مخططاته على الأرض، كي يكون في وضع يسمح له بقبول ما يريد ورفض ما لا يريد. أما الفلسطينيون فرهانهم على أن يفلح العالم في إدخال تعديلات على الصفقة تسمح بالتعاطي معها قبولاً أو رفضاً