سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

عائدون إلى الأرض

إذا كانت الدول المتقدمة مهددة بالتغير المناخي وما ينتج عنه من كوارث، فالدول الأقل تقدماً، كما هي حالتنا، مشكلتها مزدوجة، بين ما سيصيب الأرض عموماً من نكبات، وما سيلحقها بشكل خاص بسبب حماقات سياساتها البيئية الداخلية الفوضوية، مما سيضاعف من التحديات. ولبنان نموذج يستحق الوضع تحت المجهر، كناكرٍ مثالي لما أعطي من طبيعة وموارد، والتعامل معها بجلافة وتدمير سافر.
التقرير الأممي الأخير حول المناخ الذي سيعرض في بولندا نهاية السنة، يظهر كم أن المخاطر القادمة تزحف بأسرع مما يتمكنه المصلحون وأصحاب نداءات الاستغاثة المخلصون. التقرير أشبه بناقوس خطر يقرع على العالم وتذكير بأن الوقت يشارف على النفاد. الاقتراحات كثيرة والإجراءات شحيحة. جلّ ما يدعو إليه التقرير هو التمكن من تخفيض الاحترار العالمي المتوقع نتيجة التخريب البشري الوحشي نصف درجة بدل أن نصل إلى درجتين إضافيتين ستكونان مدمرتين خلال العقد المقبل.
لكن حتى دولة مثل ألمانيا لا تزال تعتمد على الفحم في توليد الكهرباء بشكل أساسي وهي من بين الأكثر تلويثاً في أوروبا.
لو وضعنا جانباً الدول القليلة جداً التي أدركت باكراً خطورة الانبعاثات واستخدام الطاقة الملوثة وأخطار قطع الأشجار، ومعهم نفر قليل من الذين آمنوا بأن الأرض أمهم وما عليها رزقهم الذي يحتاج الرعاية للحفاظ عليه، لم يبق أحد منذ بدء العصر الصناعي إلا وساهم في تدمير الكوكب، جهلاً أو أنانية.
التقرير الأممي اعتمد على ستة آلاف مرجع علمي، وشارك فيه أكثر من 90 عالماً، من 40 دولة، وأعد بالتعاون مع مئات الخبراء، لكن هذا يبقى في النظريات، وكل إجراء عملي سيحتاج ما يشبه عملية جراحية دقيقة، بسبب الاستخفاف أحياناً، والاستسهال أحياناً أخرى، وتفضيل المصالح الصغيرة المؤقتة على الصالح البشري.
في ثمانينات القرن الماضي، كنا نرى إلى أنصار البيئة وهم يتظاهرون، وكأنهم نوع من فولكور مشاغب، ظريف وعابر، كان لا بد من نهاية القرن ليصبحوا أكثر إقناعاً، وليتحولوا اليوم إلى أحزاب سياسية يصح القول إن المستقبل لها بعد أن اكتشفت عورات الخطط القاصرة للأحزاب التقليدية.
ولم تكن مصادفة بالتأكيد أن يمنح جائزة نوبل اقتصاديان معنيان بالمناخ ولهما دراسات تظهر أن التطور التكنولوجي والعلمي ليس بالضرورة عدواً للبيئة بل هو يفترض أن يوظف لإيجاد الحلول الخضراء. فالأميركيان ويليام د. نوردهاوس، وبول رومر، آمنا باكراً بأن الذكاء كفيل بإيجاد المخارج، وربطا بين «عولمة الضمير» في التعامل مع الطبيعة وازدهار البشرية. ولم يكن نوردهاوس بعيداً عن فكرة إنشاء ناد للبلدان المتقدمة الراغبة في حماية المناخ. ولعل الحاجة بعد الاستهتار العالمي المستفحل هو إلى تشكيل هيئة أممية ذات سطوة بمقدورها فرض سلطتها على المخالفين والضاربين عرض الحائط بمستقبل الأجيال المقبلة التي سترث الكوكب، وعلينا ألا نتركه لها خراباً أو جهنم مستعرة.
وبالعودة مرة أخرى إلى دول ستعاني الأمرين نتيجة التدهور المناخي، فخلال الشهر الماضي ما يقارب مليون شخص تضرروا من إعصار «مانغوت» في الفلبين، وقضى في إندونيسيا أكثر من ألف شخص جراء تسونامي جرف مساحات هائلة من البيوت والأحياء وحولها إلى طمي. وبات لبنانيون يلمسون بوضوح أن تأثير التدمير البيئي عليهم أكبر من كل الحروب التي مروا بها. فالقذيفة تحرق شجرة أو بيتاً لكن غازات الميثان السامة التي تبثها النفايات بدون رحمة تنشر السرطان بين آلاف الناس، وتقتل تماماً كما الطاعون والكوليرا. وحقيقة وليس مبالغة هناك من يهاجر اليوم لا من الفقر بل من السمّ الذي أصبح جزءاً من الهواء. ويحتاج الأمر لمقالات عديدة لتعداد الجرائم المرتكبة بسبب غياب أي رؤية بيئية، وتفضيل الصفقات المربحة على الحلول التي تكون أحياناً أقل تكلفة وضرراً. فمن مشاريع المحارق وفضائحها، إلى بيع حتى تراب الشواطئ، والتستر على المحاسيب الذين يلقون مخلفاتهم الصناعية في الأنهار التي تروى منها المزروعات، إلى ترك المجارير تلوث مياه البحار رغم وجود معامل تكرير متطورة وعدم تفعيلها. الفضائح في لبنان كثيرة، وفي المنطقة العربية المنكوبة لا تحصى.
وبمقارنة بسيطة بين لبنان وكندا، فإن بلاد الأرز تنتظر في السنوات المقبلة هجرة شبه جماعية إلى المدن الساحلية وخلاء للأرياف، وإهمال للأراضي الزراعية، وبالطبع المزيد من الفقر والفاقة طالما أن لا شيء يبشر بأن التجمعات الكبرى ستتحول إلى مناطق إنتاجية عظيمة. أما في كندا فثمة يقظة كبرى واهتمام لافت من قبل المستثمرين الكبار لشراء مئات الهكتارات البعيدة عن المدن لاستثمارها زراعياً، في وقت يزيد فيه عدد سكان الأرض وتفغر الأفواه جوعاً وطلباً لإطعامها. أكثر من ذلك هناك تشجيع للطلاب على التخصص في الزراعة كأحد أكثر الفروع طلباً في السنوات المقبلة. أما في بلاد دجلة والفرات والأرز والنيل فليست الزراعة مما ينظر إليه على أنه هدف لكبار القوم أو أولاد الزوات.
وفي كل الأحوال من لا يريد أن يعود إلى الأرض ويفضل أن يبقى في العوالم السايبيرية الافتراضية، فأيامه المقبلة لن يكون حصادها غير الفراغ.
صرخة البيئيين التي لم تسمع في العالم العربي، التقطت من دول تحضر نفسها للمستقبل بشراسة. ودليل على ذلك أن الصين أصبحت بعد كدّ كبير، رابع أكبر مصدر زراعي غذائي في العالم وتقدمت كندا وأستراليا، علماً أن هذه الأخيرة بسبب شح المياه تتخذ مع مواطنيها تدابير لا تخطر على بال لإبقاء الزراعة أولوية وعلينا ألا ننسى الهند وإندونيسيا اللتين تعملان بجهد خيالي على زيادة ثمر الأرض. ونحن لا نزال نكتفي بالتغني بمقولة جبران الأثيرة «ويل لأمة تأكل مما لا تزرع» ونغط في سبات عميق.