د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

العودة الضرورية للعراق

إذا كان للشرق الأوسط مستقبل فإنه لن يكون إلا في ظلال الدولة الوطنية كما استقرت ضمن حدودها بعد الاستقلال، سواء كان بعد الحرب العالمية الأولى أو الثانية، أو بعد زوال الاستعمار بأشكاله المختلفة. ما تبقى من قضايا حدودية تم التعامل معها خلال العقود الماضية بحكمة بالغة لترسيم الحدود؛ وعندما تعذر ذلك بقيت الحقائق التاريخية غالبة، وفي حالات تم حسم القضايا إما بالقسمة المباشرة أو الاستغلال المشترك. كان من الممكن لكل ذلك أن يؤدي إلى استقرار المنطقة، وإعطائها الدفعة التي تدفعها نحو التقدم والازدهار. ما حدث أن حركات ثورية ارتدت ثياباً شتى من «القومية العربية» إلى «الربيع العربي» إلى «الدين الإسلامي» عبر مراحل تاريخية مختلفة زلزلت المنطقة كلها وهددت استقرارها وقدراتها على التنمية. «الثورة الإيرانية الإسلامية» كانت أكثرها شراسة، واستغلالاً للخلافات المذهبية، وسرعان ما ربطت ما بين المذاهب والأعراق، وجعلت من الدولة الوطنية رهينة حزب وجماعة كما جرى في لبنان وسوريا واليمن والعراق؛ وفيها امتدت «الإمبراطورية» إلى عواصم عربية؛ لعل ذلك يعطيها مكاناً على طاولة القوى العظمى في العالم لما لها من نفوذ في منطقة حساسة، وما لديها من قدرات نووية. التحركات الإيرانية كلها كان لها نمط مستقر من حيث الاختراق المذهبي لبلد ما، يعقبه التغلغل المخابراتي ومعه المالي والتجاري، ولا يمنع ذلك من الوجود الفعلي المسلح، إما من خلال جماعات إرهابية أو من خلال الحرس الثوري الإيراني مباشرة.
لم تقف الدولة الوطنية العربية مكتوفة اليد أمام هذه الزلازل، وخلال الأعوام القليلة لم يتم فقط وقف الحركات الثورية أياً كانت غطاءاتها الآيديولوجية، وإنما أيضاً استعادة الدولة الوطنية لدورها مرة أخرى. وسبق لنا في هذا المقام الحديث عن عودة الدولة التي ربما كانت شهادة البداية فيها إعلان الدولة العراقية رفض الاستفتاء الخاص باستقلال الإقليم الكردي في الدولة. وفي الحقيقة، فإن الدولة العراقية نجحت خلال فترة قصيرة في تحقيق ثلاثة أهداف وطنية كبرى: أولها، أنها بإزاحة نور المالكي عن الحكم وتولي حيدر العبادي بدأت في تقليص الغطاء المذهبي عن الدولة، الذي كان يعمل وبشراسة وبأوامر مباشرة من طهران. وثانيها، هزيمة دولة «داعش» وتحرير الموصل وتقليص الإرهاب. وثالثها، عودة الدولة مرة أخرى إلى مباشرة مهامها من خلال عمل مؤسساتها وفقاً للدستور الحالي الذي جرى وضعه عام 2006. ولعل انتخاب الدكتور برهم صالح لكي يكون رئيساً للدولة العراقية، ومعه ترشيح عادل عبد المهدي رئيساً للوزراء خلفاً للرئيس فؤاد معصوم وحيدر العبادي شهادة للمؤسسات العراقية على ما فيها من معضلات أنها الكيانات التي لا تجد غيرها النخبة العراقية لكي تستخدمها للحفاظ على الدولة وتنميتها بالاستقرار والإصلاح الاقتصادي والسياسي.
العراق بلد عربي مهم، ليس فقط بما له من حضارة عريقة وقديمة، وما فيه من قدرات اقتصادية فائقة من نهرين ونفط وشعب خاض محناً كثيرة وخرج منها وهو لا يزال محافظاً على هويته العراقية، وإنما أيضاً هو النافذة العربية مع الشيعة، كما أنه الجسر التاريخي مع الأكراد. وتاريخياً كان «التنوع» العراقي بين المذاهب والأجناس شهادة للحضارة العربية عبر التاريخ حتى ألمت به الجماعة البعثية بقيادة صدام حسين لكي يأخذ وطناً عريقاً إلى الهاوية السحيقة. كان حكم صدام حسين كارثة على العراق والعرب عندما كان يحكم، وعندما سقط من الحكم انتهى الأمر إلى فراغ استراتيجي مروع تمرح فيه قوى الإرهاب المختلفة، وإيران. على أي الأحوال، فإن التاريخ سوف يحكم على هذه المرحلة من تاريخ العرب، لكن العراق يظل دولة مهمة في العالم العربي وجامعة الدول العربية، وبعد وقبل كل شيء، فإنه حجر زاوية في الجغرافية السياسية للعالم العربي على الحدود مع إيران وتركيا، وفيه من السكان قرابة 38 مليوناً، ومن الناتج المحلي الإجمالي مقوماً بالقدرة الشرائية للدولار ما يصل إلى 753 مليار دولار، ولديه مخزون نفطي يضعه في المقدمة من الدول النفطية في العالم.
عودة الدولة العراقية ضرورة استراتيجية للعالم العربي، واختيار برهم صالح وعادل عبد المهدي خطوة على طريق استقرار الدولة والتعامل مع التحديات التي تواجهها. فعند خروج العراق من المحنة، فإن الدولة تخرج وقد تمزقت العلاقات بين طوائفها، ودمرت بنيتها الأساسية، ولا تزال تعاني من جيوب إرهابية، واختراقات إيرانية متعددة. ولعله من المبكر الحديث عن دور عربي للعراق، لكن الممكن الآن هو مساعدة الدولة في الوقوف على قدميها مرة أخرى، سواء كان ذلك في إعادة البناء أو المساهمة في إقامة الروابط مع الجماعات والطوائف المختلفة في الدولة التي يبدو من كل الشواهد أنها ناءت من الاختراقات والضغوط الإيرانية. برهم صالح لديه من الخبرة السياسية والاقتصادية في الحكومة العراقية وزيراً للتخطيط ونائباً لرئيس الوزراء، أو رئاسة وزراء الإقليم الكردي ما يجعله ملهماً - رغم تواضع سلطات رئيس الجمهورية - للسلطة التنفيذية وإدارة علاقاتها مع السلطتين التشريعية والقضائية. وعادل عبد المهدي هو الآخر لديه من المواصفات العلمية والخبرة السياسية ما يجعله قادراً على السير في الشعاب الملتبسة للساحة السياسية العراقية التي تعقدت خلال العقود الثلاثة الماضية. وهو على أي الأحوال جاء مختاراً من الكتلة الشيعية، لكن هذه المرة بتأثير مهم من جماعة مقتدى الصدر وحيدر العبادي، وكلاهما له رؤية مستقلة لمستقبل العراق. والده كان وزيراً في عهد الملك فيصل الأول، وفي حياته المديدة مر بحزب البعث وبالجماعات الماوية، وتعلم في فرنسا الإدارة العامة والاقتصاد السياسي، وعندما أطيح بصدام حسين شغل منصب نائب الرئيس العراقي، كما كان عضواً في لجنة الدستور، وعمل وزيراً للنفط في واحدة من الوزارات السابقة.
لقد اغترب العراق طويلاً عن العالم العربي مرة على يد صدام حسين الذي كان يريد تحقيق الوحدة العربية بغزو الكويت في واحدة من أبشع الكوارث العربية التي أطاحت في النهاية بصدام ومعه العراق أيضاً. ومرة أخرى عندما احتلت الولايات المتحدة العراق فلم تفقدها استقلالها فقط، وإنما سلبتها هويتها ومزقت شعبها وأقاليمها. ومرة ثالثة عندما تصور نور المالكي أنه يمكن خلق إمارة تابعة لإيران في الدولة العراقية. ولعل هذه المرة الأخيرة كانت السبب في يقظة عراقية نجحت في تحقيق ما أشرنا له سابقاً من تقدم على طريق بناء الدولة واستقرارها مرة أخرى. والمؤكد هو أن الطريق لا تزال طويلة، واختيار رئيس للدولة ورئيس للوزراء ليس آخر المطاف؛ فالأزمات بأنواعها المختلفة تتفجر من مصادر شتى، والمرجح تماماً أن إيران لن تتوقف عن التدخل، والدولة في منطقة تتقاطع فيها التدخلات الإقليمية والعالمية. الأمر العراقي كله يحتاج درجة أعلى من الفهم والتفاهم مع القيادات العراقية من جميع الاتجاهات؛ فالغربة العراقية خلقت فجوة معرفية إزاء بغداد وربما كانت أولى الخطوات أن نعرف العراق أكثر، ونعرف من العراقيين ماذا يريدون في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخهم، وتاريخنا أيضاً!