محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

تحديات أمام رئيس الوزراء العراقي الجديد

بعد أكثر من خمسة أشهر على إجراء الانتخابات البرلمانية الأخيرة في العراق (ثاني انتخابات بعد الانسحاب الأميركي ورابعها منذ سقوط النظام السابق)، وبعد شقاق طويل وخلاف على نتائجها، استطاعت النخب السياسية العراقية أن تتوافق على الرئاسات الثلاث (رئاسة مجلس النواب، ورئاسة الجمهورية، ورئاسة الوزراء)، وهكذا جاء عادل عبد المهدي المكلف بتشكيل الوزارة، كما قيل، مرشحاً (توافقياً) بين تلك الأحزاب والجماعات السياسية العرقية والمذهبية، وبعضها مسلح والآخر آيديولوجي، وبعضها تابع لخارج الحدود، وكلها متنافرة إلى درجة أن المتابع يفقد القدرة على معرفة أيٍّ من تلك المكونات في لحظةٍ ما متحالف أو متنافر مع المكون الآخر. فبعد تاريخ طويل في العراق من حكم الحزب الواحد (الذي لا شريك حياً له)! إلى عدد لا يُحصى من التجمعات في كل المكونات - المكون الوحيد (الموحّد) هو المكون التركماني حتى الآن، ربما بسبب عدد التركمان الصغير نسبياً في العراق - إلا أن الاحتمال أن يطول الزمن قبل أن يصل عادل عبد المهدي إلى تكوين وزارته العتيدة، كما أن الاحتمال الثاني، هو أن الزمن سوف يقصر بها (إنْ ظهرت) فبقاؤها في الحكم سوف يكون قصيراً. العراق حتى الآن غير مهيأ (للمهدي) وما يمثله من أفكار أو توجهات في الحكم. من أجل هذه المقالة رجع الكاتب إلى ما تيسر مما كتبه السيد عبد المهدي، وكان بإمكاني أن أصل إلى شبه قناعة بأن هذا المتحول (من الفكر القومي إلى الإسلامي إلى الليبرالي) هو رجل أقرب إليه (الحلم) منه إلى قيادة مجموعات متنافرة ومتصارعة اسمها (النخب المسيطرة على السياسة في العراق اليوم). هو ترك انطباعاً أنه زاهد في المناصب، فلن يفاجأ أحد إنْ قَدِم عبد المهدي على رئيس الجمهورية (برهم صالح) في وقت قريب، وفي يده خطاب اعتذار عن عدم التكليف. إذا كان الأمر أخذ أكثر من خمسة أشهر لاختيار ثلاثة أشخاص، مرسومة انتماءاتهم في ذهن الجميع (سنّي وكردي وشيعي) فما بالك باختيار تقريباً خمسة وعشرين إلى ثلاثين شخصاً لإدارة البلاد! كل تلك القوى تقاتل من أجل وضع (رجالها) في السلطة من أجل الحصول على قطعة من الكعكة!
لفتني في كتابات عبد المهدي تنظيره لحقب الحكم الثلاث في تاريخ العراق الحديث: المرحلة الملكية، والتي كما قال (علة وجودها) التوافق الدولي عليها، والمرحلة الجمهورية، والتي كان علة وجودها حكم العسكر، وعندما تنتفي (علة الوجود) ينهار النظام ويتلاشى، والمرحلة الحالية والتي علة وجودها كما قال (الديمقراطية والانتخابات واللامركزية وإطلاق الحريات)! عجز القائمين على النظام الحالي عن الوفاء بتلك الشروط الأربعة ينفي حجة وجود (النظام) كما يُفهم من قول عبد المهدي!
واضح أن كل ذلك (تنظير) يقبله المثقف الحالم، ولكنه لا يُطعم الجمهور خبزاً ولا يوفّر لهم وظائف ولا يمدهم بالكهرباء ولا يتيح لهم شرب ماء نظيف، وفوق ذلك لا يؤمّن لهم أمناً! في مقال آخر يبرر عبد المهدي ما هو موجود من (نظام) قائم اليوم في العراق، على أنه (على عكس ما يقول البعض) قد قَدِم على متن دبابة - هي الدبابة الأميركية - جاءت - كما يرى عبد المهدي - مستغلة لكفاح الشعب! من النادر في العالم أن ينجح سياسي وهو متعلق بالتنظير. بعضهم - وهم قلة - نجحوا، وأكثرهم فشلوا، وفي الحالة الموضوعية للعراق اليوم فإن النجاح بعيد المنال في التحليل العقلاني. يقول عبد المهدي في مكان آخر: «علينا جميعاً أن نراجع مفاهيمنا وثقافتنا وسلوكنا... فهي قبل غيرها سبب أزماتنا المتكررة، فنحن نراكم السلبيات ونضحّي بالإيجابيات»! وربما فات على السيد عبد المهدي أن تغيير الثقافة، خصوصاً السياسية، لا يأتي بمرسوم، فهي عملية طويلة المدى، كما أن الديمقراطية ليست نصوصاً ولكنها سلوك!
أمام عبد المهدي أربع عقبات كؤود؛ الأولى ما يُعرف في العرف السياسي الحديث بـ(المرجعية)، التي هي في العراق شكل محسَّن من المرجعية الإيرانية، مع فارق مهم أن الثانية (إيران) لها سلطات واسعة، تحمل شيئاً من المسؤولية. أي أن الجمهور العام يمكن أن يلومها في حال الفشل! أما الأولى العراقية، فلها سلطات معنوية ضخمة ولكن بلا مسؤولية، وهي حالة من حالات الغموض السياسي المحير، حتى لا تستخدم مفاهيم أخرى توصف وضعها في بنية السلطة السياسية، كما أن مستقبلها مبهم بعد ذهاب سماحة علي السيستاني بعد عمر طويل، (هو اليوم في أواخر ثمانيناته)، ربما بعده تتعدد المرجعيات للأغلبية من المكونات، وتنتشر بين ولاءات مختلفة وأيضاً متضاربة! أما العقبة الثانية فهي علاقته بأميركا التي وقّعت معها الدولة العراقية مجموعة من المعاهدات متوسطة وطويلة الأجل. وهي، أي الولايات المتحدة، لها أجندة محددة في العراق وجوارها. أما الثالثة فهي إيران، وهنا يدخل عاملان؛ الأول طموحات إيران غير المنكَرة من سياسييها وقادتها في التسلط على مقدرات العراق، موارد وبشراً، والثاني التنافس بينها وبين الولايات المتحدة على أرض العراق، وهو تنافس في مرحلة سابقة - أي المرحلة الأوبامية - كان إلى حدٍّ ما منسجماً، أما اليوم في المرحلة الترمبية فهو متنافس إلى حدِّ الصراع. أما العقبة الرابعة والأخيرة فهي طموحات الناس (الجمهور العراقي) الذي يفتقر إلى الأمن وتتسلط عليه فوضى السلاح والفساد من جهة، ورغبة بعض المكونات في الانفصال تحت شعار (اللامركزية) من جهة أخرى. هذا الجمهور الذي تشعر غالبيته نتيجة ما مرّ به خلال أكثر من خمسة عشر عاماً، بأن هذه المرحلة قبلها كان أفضل مما هي فيها! تتعطل مطالبه الحياتية ويزداد نفوراً من جميع المكونات، وما أحداث البصرة إلا مظهر قد يتكرر في أكثر من مكان.
هذه العبء الرباعي الكبير والمتشعب لن يفيد فيه كثيراً ترياق (الزهد في المناصب) ولا حتى (التفكير النظري) الذي يحمله السيد عادل عبد المهدي، ولا حتى تنظيراته في مقالاته بين (الثورة الفرنسية) التي عشق تطوراتها ومآلاتها و(الحالة العراقية)، وإن كان ثمة احتمال في التماثل فعليه أن يفكر في إبدال الشعب الفرنسي بالشعب العراقي! لتلك الأسباب مجتمعة فإن ظهور المهدي في بغداد جاء في تقديري قبل أوانه بكثير!

آخر الكلام:
يتوجه العراق إلى نظام سياسي هجين، بين الإيراني (نفوذ رجال الدين) وبين اللبناني (المحاصصة الطائفية)، وزاده هجانة طلب السيد عادل عبد المهدي (عير المسبوق في كل تجارب العالم) أن مَن يرِد أن يعمل وزيراً فليقدم طلباً على الإنترنت!...