TT

من الحلم القومي إلى العصف الديني

كل قرن في مسار الزمان له شخصيته وإنتاجه الفكري والسياسي. على مدى القرون الخمسة الماضية كانت أوروبا الفاعل العقلي والعسكري والسياسي الأبرز على مستوى العالم. من النهضة إلى التنوير والزحف الاستعماري، ونشر لغاتها ودينها في بقاع واسعة من الأرض، وكذلك الحروب التي خاضتها أوروبا بين دولها فوق أرض القارة وخارجها.
منذ قيام الدول القومية ورسم الحدود بينها، برزت الهويات القومية المملوءة بشحنات تعصب آيديولوجي قومي، تلقفتها الشعوب المستعمَرة لتجعل من التشدد للانتماء القومي وقوداً محركاً لتصليب الترابط الوطني ضد القوى المحتلة.
العرب كانوا في قلب تلك الموجة القومية العاتية التي ساحت فوق مساحات واسعة من العالم. الدين لم يغب عن ذلك الاندفاع الذي رفع شعارات الحرية الوطنية التي كتبت بمداد متعدد الألوان، كان له صبغة فاقعة في كثير منها. الرابط بين العرب في تصديهم للهيمنة العثمانية التي تتلفع بعباءة الإسلام كان حبل القومية التي تجمعهم وتصنع هويتهم، في مواجهة الأتراك الذين يشتركون مع أغلبهم في العقيدة الإسلامية. اندفاع نخبة عثمانية نحو هويتهم القومية في بداية القرن العشرين وانتهاجهم سياسة التتريك الطوراني، أجج فورة النخبة العربية لتفعيل الانتماء القومي الذي يجمع مسلميهم ومسيحييهم.
في أوروبا، شهد القرن العشرون هزات عنيفة آيديولوجية وقومية لم تغب عنها القوة العسكرية، من الشيوعية إلى النازية والفاشية. بعد الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية سقطت العباءة الدينية عن منظومة الحكم العابرة للقوميات في العالم الإسلامي. تشبث البعض بمبدأ الخلافة كصيغة مقدسة للحكم، في حين ارتفعت الأصوات التي ترفض ذاك التوجه. تسابقت الأصوات التي ترشح الأسماء المؤهلة لتسنم عرش الخلافة، بعد تحول تركيا إلى جمهورية تحت زعامة كمال أتاتورك. رأى بعض المصريين، وخاصة النخبة الأزهرية، أن الملك فاروق الأول هو المؤهل لتولي الخلافة؛ لكن المعارضة لذلك ظهرت من المنبر ذاته، وهو الأزهر؛ حيث نشر الشيخ الأزهري علي عبد الرازق كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، الذي قال فيه إن نظام الخلافة لا علاقة له بالدين الإسلامي، وإنما هو أسلوب من إبداع البشر.
خبت الأصوات التي كانت تدعو للعض على نظام الخلافة كقاعدة دينية للحكم؛ لكن تلك النزعة لم تغب عن العقول والقلوب. فبعد سقوط الخلافة في إسطنبول بسنوات قليلة، تحركت نخبة أخرى في مصر تدعو إلى حكم الإسلام، ولكن تحت مسمى آخر غير الخلافة كنظام سياسي، وهي حركة «الإخوان المسلمين»، بزعامة حسن البنا. بقيت تلك الحركة حية وفاعلة على مستوى الفكر والتنظيم. خاضت معارك مع النظام الملكي، واتسعت دائرة نشاطها إلى خارج مصر، متماهية مع أطروحات فكرية من خارج القطر المصري.
في الوقت ذاته، شهدت مناطق كثيرة من العالم نشاط حركات قومية نجحت في تحقيق استقلال بلدانها عن المستعمر الأجنبي. كانت بلاد الشام في أواخر العهد العثماني بؤرة الرفض العربي للهيمنة التركية، ودفعت ثمناً باهظاً لذلك من القتل والعسف والمعاناة. الشحنات القومية العربية لم تخبُ في الشام، وامتدت إلى أقطار الشرق العربي؛ حيث كانت لها أنفاس منذ الثورة العربية الكبرى في العقد الثاني من القرن العشرين. حزب البعث العربي، ولد في الرؤوس خارج تراب الشام؛ لكن بفعل الموروث منها. عقيدته هي الانتماء الواحد لكل العرب، إلى أصل واحد، يحتم وحدتهم في كيان سياسي واحد.
كان ميشيل عفلق العقل المنظّر الذي صاغ رؤية المشروع الجديد، ظلَّ هذا التيار يتحرك في صيرورة سياسية إقليمية ودولية مع الأحداث المكثفة والسريعة. قيام دولة إسرائيل دفع برياح جديدة سياسياً كان لها أثر هائل على المشروع. حرب السويس حققت انتصاراً سياسياً مصرياً، تحول إلى دفق عربي عابر للحدود، وساهم في قيام الوحدة بين مصر وسوريا. حركة القوميين العرب انطلقت من الجامعة الأميركية ببيروت، واتسع نشاطها في كثير من البلدان العربية، في حين شكل حزب البعث العربي الاشتراكي «القيادة القومية» التي تضم عناصر من كثير من البلدان العربية، مقابل القيادة القطرية في كل بلد.
الانقلاب في العراق بقيادة عبد الكريم قاسم كسر استراتيجيات الأحلاف، وشكل إضافة للخلافات العربية، وصارت وسائل الإعلام التي تطورت واتسع تأثيرها، وخاصة الراديو، عاملاً في خلق رأي عربي على المستوى الشعبي للمرة الأولى في التاريخ.
قضيتان ملأتا دنيا العرب: فلسطين، والوحدة العربية. لغة التعبئة عبر الشعارات الإعلامية والخطاب الحماسي استولت على قلوب العامة، التي تعاني من تفشي الأمية، وتُقاد بإيقاع الحلم. رُفعت شعارات الرجعية والتقدمية؛ لكن توالت الانفجارات الشعاراتية في ما عرف بالمحور التقدمي بين العراق وسوريا ومصر بعد الانفصال.
بعد هزيمة يونيو (حزيران) انكسر الحلم القومي، وخيم شبح القادم المجهول على الأرض والرؤوس. خيوط الإسلام السياسي التي وهنت بعد ضرب حركة «الإخوان المسلمين» في مصر، عادت تغزل ذاتها من جديد، صارت النخب المحبطة تدور في دوامة السؤال: ما العمل؟ تكسرت مراكب الأحلام التي كانت تدفع وتندفع نحو الوحدة العربية وتحرير فلسطين. توالت الانقلابات العسكرية وتعددت شعاراتها، وغابت برامج التنمية، ورافق الصراع على السلطة تفشي القمع والعنف الجسدي. تقاتل رفاق الآيديولوجيا في الحزب الواحد في العراق وسوريا، وكانت مذبحة قيادة اليمن الجنوبي الشيوعي، وكذلك في السودان.
تغير العالم سياسياً وثقافياً واقتصادياً. تفككت الكتلة الشيوعية، وتفجرت ثورة الاتصالات والمواصلات، وشهد العالم ولادة نمور اقتصادية، خاصة في آسيا، ووجد بعض الشباب الطموح أو المحبط أنفسهم أمام دنيا جديدة تتغير. تحرك الجمر القديم الكامن في رماد الماضي. واندفع من الحفر القديمة مائة رأس ورأس، في أيديهم أوراق الماضي القديم والحديث، عنوانها «الإسلام هو الحل«.
الغزو السوفياتي لأفغانستان كان الوقود الذي ملأ الرؤوس. لم يكن تجمع بعض الشباب المسلم من مختلف الأقطار مجرد تجمع مقاتل باسم الإيمان ضد الإلحاد الشيوعي، إنما شمل تجمعات أنتجت فكراً إسلامياً متشدداً. رسم بالدم الصورة المتخيلة لعالم أرادوا تغييره باسم «الجهاد«.
بمرور الوقت توالدت حركات من الرحم ذاتها؛ لكن كل قادم جديد صار أكثر تشدداً من الوالد. لم يقدم أي تنظيم خطة أو برامج للتقدم العلمي أو الاقتصادي والاجتماعي، حتى أصبح العنف هدفاً في حد ذاته، لا يحقق لفاعليه إلا الشهادة التي تضمن الجنة.
في الحالتين الإسلامية والقومية، كان الفكر عابراً لحدود الدولة الوطنية، والآيديولوجية الشعاراتية التي ترتكز على تخوين المخالف في الحالة القومية، وتكفيره في الحالة الدينية.
كان الحلم القومي مسيرة في فضاء بلا خرائط تنبت محصولها فوق الأرض، والعصف الديني العنيف العابر للحدود أشبه بالتيه في دنيا متخيلة.
لا شك أن المستقبل سيطرح أسئلة جديدة، بعد رحلة الفشل، فلا وحدة عربية تحققت، ولا فلسطين تحررت، ولا تقدم على الأرض، ولا الإسلام تجسد حكماً وتقدماً. الزمن هو أكبر المعامل التي يتخلق فيها ما ينفع الناس من الأفكار والسياسات، وذلك ما حققته عصور النهضة والتنوير في أوروبا، وبعد حروب رهيبة وصل الأوروبيون إلى القوانين التي تحكم المعمل الإنساني.