خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الديمقراطية والطفيليون

مر العالم العربي في الآونة الأخيرة بسلسلة من الانتخابات البرلمانية. وهذه الانتخابات مناسبات معروفة بولائمها وموائدها. ومع ذلك فمن الغريب أن إمكاناتها الطفيلية ظلت محصورة بالهواة وعابري السبيل من المتطفلين. وقلما أعطاها المحترفون ما تستحقه من الاهتمام والتفكير. وقد يعود ذلك إلى ندرة هذه الانتخابات وعدم انتظامها. وأي طفيلي مجرب ومحترف يبني حياته على آمال إجراء انتخابات؟ وهذا ما عبر عنه بالضبط أحد الأساتذة في علم التاريخ ممن لهم سبق في الميدان. قال إنه لا يعقد أي آمال على ولائم الانتخابات. لا أحد يستطيع أن يمسك بطنه أربع سنوات انتظاراً لحملة انتخابية جديدة. ولهذا كرس اهتمامه كلياً للمؤتمرات العلمية.
بيد أن هذا عيب وتقصير من جانب الاحتراف الطفيلي. فلم ينتبه أصحابه مطلقاً للعلاقة الديناميكية بين الحياة الطفيلية والديمقراطية. فلو أولوا الموضوع حقه من التفكير لوجدوا أن بالإمكان مثلاً الطعن بتزوير الانتخابات والمطالبة بإعادتها، ثم مقاطعة الانتخابات الجديدة، وإعادة الحملة من الأول. وحالما يلتئم المجلس الجديد تفتعل فيه معارك عنيفة بالأيدي والأحذية تجبر الحكومة على حله وإجراء انتخابات أخرى. وبمثل هذه الأساليب سيمكن فرض حملة انتخابية جديدة مرة في كل شهر بكل ما يتبعها من الولائم والضيافات.
ولكن أحد زملائي المؤرخين لم ينبهر بهذه الإمكانات وظل مقطب الجبين. قال: «كلامك يا عزيزي لا يغريني. انتخابات تروح وانتخابات تجيء والأكل نفس الأكل؛ باميا بالثوم، وكوسة مسلوقة، وحلاوة بالجوز. هذه حياة رتيبة. وأنا من عشاق التنويع. ميداني هو ميدان المؤتمرات العلمية. في الصيف المقبل عندنا مؤتمر عن المسعودي في إسطنبول. وسيعطينا ذلك فرصة لتذوق الكباب البيتي على الرز بالزعفران. ولا تنسَ زيتون إزمير المحشي بالصنوبر. كل فردة منه تسوى كل ما عندك من ولائم الانتخابات».
واستمر صديقي الأستاذ بلهجة الطفيلي الواثق من نفسه. وقال: «في شهر أكتوبر (تشرين الأول) سنلتقي، وأقصد الجماعة نفسها، في روما لمؤتمر دولي عن مكيافيلي وتأثره بالغزالي. ويشمل المؤتمر عشاء في مطعم كافور وسفرة إلى جزيرة كابري لأكل الجمبري والأويستر. وفيما يعود المؤتمر سأذهب مع الزميل سعد والدكتور توفيق لنابولي لتذوق البيتزا الأصلية».
واستمر الزميل في سرد تفاصيل البرنامج العلمي لموسم 2019. في نوفمبر (تشرين الثاني) سيأكلون الكسكسي في فاس وبعدها سيتذوقون الكافيار في طشقند. وفي ديسمبر (كانون الأول) عندهم موعد مع الكولاج الأصلي في بودابست.
وما انتهى الدكتور المؤرخ من برنامجه العلمي حتى رحت أتأمل في هذا التطور الشامخ الذي اجتاح النشاط الطفيلي في عصرنا هذا. لقد لاح لي أن الجري وراء ولائم الانتخابات أصبح بالمقارنة بضيافات الندوات العلمية أشبه بالجري وراء الجنائز والمآتم انتظاراً لوليمة الخير على روح الميت. وكل ذلك تأكيد لما قلته أولاً. إن عالم التطفل والطفيلية القديم ما زال في خير وفي تطور مستمر. تكفينا منه الحفلات الثرية التي تقيمها السفارات والزيارات الرسمية بكل ما فيها من الخرفان المحشية وأطباق الكافيار وشطائر سمك السالمون المدخن.