سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

في تونس... الدولة أبقى من «الحركة»

هذه الأيام، تبدو «حركة النهضة» الإسلامية في تونس، واقفة في أكثر من قفص اتهام سياسي، وتبدو في حاجة إلى الدفاع عن نفسها بكلام مقنع، في كل حالة من حالات الاتهام، فضلاً عن حالة فريدة واحدة، يُلوّح فيها أصحابها في مواجهة الحركة، بأن الاتهام فيها جنائي أكثر منه اتهاماً سياسياً!
إنني أقصد حالة تقول فيها «هيئة الدفاع» في قضيتي مقتل الناشطين التونسيين شكري بلعيد، ومحمد الإبراهيمي، اللذين لقيا مصرعهما بطريقة غامضة قبل خمس سنوات من الآن، إن حركة النهضة التي يرأسها الشيخ راشد الغنوشي مسؤولة عنهما بمعنى من المعاني. فهيئة الدفاع في القضيتين تتهمها دون غيرها بأنها كانت وراء الحادثتين، وبأن هناك دلائل قوية على صحة الاتهام، وبأن التحقيقات سوف تكشف عن الحقيقة!
الحركة من جانبها تنفي هذا الاتهام نفياً كاملاً، وتؤكد أنها خالية المسؤولية تماماً في الواقعتين، ولا بد أن علينا أن نصدق كلامها إلى ثبوت العكس، وهذا العكس سوف يأتي من خلال تحقيقات الجهات المختصة، وهو ما كانت النيابة العامة التونسية قد بدأته بالفعل، بناء على بلاغ هيئة دفاع بلعيد والإبراهيمي، وسوف تكون كلمة النهاية في هذه الحالة من الاتهام تحديداً، في يد النيابة وحدها. إنها هي التي ستقرر على أساس ما أمامها من أوراق، ما إذا كانت حركة النهضة بريئة أم مُدانة!
ولكن الاتهامات السياسية لها طابع مختلف، وفي حاجة إلى كلام آخر، ثم إلى دفوع مغايرة؛ لأنها تتصل بالوضع السياسي في البلاد، وما إذا كانت حركة الشيخ الغنوشي مسؤولة عن وصوله إلى حالته الراهنة من التأزم، أم أنها منه بريئة!
فقبل أربعة أعوام، عندما جرت انتخابات 2014 البرلمانية، كانت حركة نداء تونس التي أسسها الباجي قائد السبسي، قد فازت في الانتخابات، وتصدرت الأحزاب الفائزة، وبلغ عدد مقاعدها في البرلمان 86 مقعداً، وكانت تحتل المرتبة الأولى من حيث عدد نوابها، وكان الباجي قد فاز في السباق الرئاسي من خلالها، وكانت حركة النهضة في المرتبة الثانية بعدد من النواب وصل إلى 68 مقعداً، وكان الوضع السياسي يُحلّق في فضائه بجناحين متوازيين تقريباً: جناح «نداء تونس» وجناح «النهضة». وكان الأمل أن يدوم هذا التوازن ويستمر، وأن يكون ذلك إلى نوفمبر (تشرين الثاني) من العام المقبل على الأقل؛ حيث ستجري انتخابات جديدة على مستوى الرئاسة والبرلمان معاً!
ولكن ما حدث كان على النقيض، فالرئيس فاجأ الوسط السياسي قبل أربعة أسابيع، بأن أعلن فك الارتباط بين حركة النداء وبين حركة النهضة، وأضاف ما معناه أن الطلاق بين الحزبين قد جرى بناء على طلب من حزب النهضة، وفي المقابل فإن حزب الشيخ الغنوشي لم يُكذّب أن الطلاق السياسي تم بناءً على طلب منه، بما يعني ضمناً أن ذلك صحيح، ولم يتطوع في الوقت نفسه بذكر شيء، أي شيء، عن السبب الذي دعاه إلى اتخاذ مثل هذه الخطوة، مع الحليف الرئيسي له في الحكم وفي الحكومة!
وهكذا بدت المسؤولية عن تقويض دعائم تحالف الحكم القائم، واقعة على كاهل حركة الشيخ الغنوشي ورفاقه، وهذا في حد ذاته اتهام سياسي له تبعاته، وكان المتصور أن يخرج بيان عن مكتب الشيخ يشرح أسباب فض التحالف، ويقول إن الطلاق إذا كان قد وقع لأسباب خارجة عن الإرادة، فإن «النهضة» ستحاول لم الشمل من جديد، وإنها لن تيأس، لأن مصلحة البلاد هي في لمّ الشمل، وليست في تمزيقه، ولأن الأطراف السياسية المختلفة مقبلة على انتخابات لا تحتمل أن يكون كل طرف في طريق، وبالذات الطرفان الأساسيان!
وكان هذا هو الاتهام السياسي الأول، الذي لم تبذل حركة النهضة جهداً ملحوظاً في دفعه عنها، ولا في تفنيده، ولا حتى في شرح ظروفه، أو ملابساته، أو تفاصيله الغائبة عن المراقب من بعيد!
ثم كان هناك اتهام سياسي آخر، وكان يتعلق بمدى مسؤولية «النهضة» عن خروج كيان برلماني جديد إلى النور، إنه «الائتلاف الوطني» الذي راح يتشكل من نواب خرجوا من حركة النداء وفارقوها، ومن نواب من أحزاب صغيرة أخرى، وكانت نتيجة تشكيل تكتل برلماني بهذا الاسم، تراجع ترتيب «النداء» في البرلمان إلى المرتبة الثالثة، لتصبح «النهضة» صاحبة المرتبة الأولى، بحكم عدد نوابها، وليصبح التكتل الجديد هو الثاني؛ لأن عدد نوابه المنضمين إليه، أكبر من عدد نواب حزب الباجي!
فهل يمكن القول بأن حزب الشيخ الغنوشي بريء من الوقوف وراء هذا كله؟! هذا هو السؤال. صحيح أن من حقه أن يسعى إلى السلطة بالطريقة التي يراها، ما دام حزباً يحترم الدستور والقانون، ولا يخرج عليهما، وصحيح أن سعيه في هذا السبيل سعي مشروع، ولا يُلام عليه، ولكن هناك فرقاً بين سعي من هذا النوع في ظروف عادية، وطبيعية، وبين سعي يمكن جداً أن يكون على حساب استقرار نسبي كان قد تحقق في البلاد، بعد أن تجاوزت أجواء ما يُعرف بالربيع العربي!
ولم يكن هذا هو الاتهام السياسي الأخير؛ لأن بقاء الحكومة الحالية برئاسة يوسف الشاهد، كان ولا يزال محل خلاف كبير، بين حزب حركة نداء تونس الذي يرى تغيير الحكومة، وتغيير رئيسها، وبين حزب حركة النهضة الذي يرى العكس على طول الخط، ويتمسك ببقاء الشاهد وحكومته، كما لم يتمسك بشيء آخر، ويجعل منح الثقة من جانبه للشاهد مقترناً بتعهد الأخير - منذ الآن - بألا يرشح نفسه في سباق الرئاسة!
وهكذا، فالوضع بالنسبة للرئيس غير مسبوق؛ لأنه يرغب في إجراء تعديل في الحكومة، ويرغب في المجيء برئيس وزراء جديد، وهذا حقه المشروع، ولكنه غير قادر على ترجمة ما يريده سياسياً على الأرض، لا لشيء إلا لأن الحليف الرئيسي في الحكومة، لا يرغب ولا يريد، ولأسباب لا يفصح عنها، وإذا أفصح عنها وكشفها بدت في غاية الغرابة، وبدت غير مفهومة، وغير مقنعة، لا للحليف في حركة النداء، ولا حتى للذين يراقبون الوضع السياسي في البلد ويحاولون فهم أبعاده ومراميه!
ولا تنتهي قائمة الألغاز السياسية، التي تخرج لغزاً بعد لغز على المائدة التي تجمع الحليفين، ولا يكاد المتابع يقطع خطوات في فك غموض واحد من الألغاز، حتى يكون لغز جديد قد أضيف إلى القائمة، وكلها تبدو مُعلقة في رقبة حركة النهضة الإسلامية، التي تقول الشيء في كثير من المواقف، ثم تتصرف بعكسه، دون أن تنتبه إلى أن هناك مَنْ يحصي مواقفها ويعجز عن فهمها أو تفسيرها!
وليس مطلوباً منها إلا أن تتصرف بما يشير إلى أن السلطة لديها وسيلة، لا غاية، وأن حرصها عليها هو حرص على صالح كل تونسي، لا صالحها كحركة، وهو ما لا تظهر عليه بوادر في الأفق، ولا براهين على الأرض بين الناس، ولن تظهر البوادر ولا البراهين، إلا إذا تولت هي في خطابها السياسي تفنيد الاتهامات السياسية بالذات، اتهاماً وراء اتهام. فتونس الدولة أبقى من «النهضة» الحركة!