فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

معركة إدلب الداخلية

تكثف حالة إدلب ومحيطها اليوم خلاصات الواقع السوري، بل وتضيف إليه خلاصات تتصل بواقع الصراع الإقليمي والدولي حول سوريا، الأمر الذي يجعل مما يجري ويتواصل في إدلب بمثابة مرحلة انتقالية، ترسم مصير سوريا وقضيتها، أكثر مما يمكن أن ترسم مستقبل إدلب وحدها.
ففي المنطقة والجوار القريب منها من أرياف حلب وحماة واللاذقية، يتجمع أكثر من ثلاثة ملايين سوري، وإن كانت أغلبيتهم من إدلب، فإن بعضهم جاء من محافظات أخرى، بما فيها محافظات شهدت مصالحات مع النظام مثل حلب وريف دمشق ودرعا. وفيها باستثناء التشكيلات المسلحة المحلية الطابع من الأحرار وفيلق الشام وهيئة تحرير الشام «النصرة سابقاً»، تنظيمات جاءت من مناطق المصالحات ومنها جيش الإسلام وفيلق الرحمن، إضافة إلى وجود خلايا نائمة لتنظيم داعش.
وكحال التشكيلات المسلحة، فإن التشكيلات السياسية المعارضة موجودة هي الأخرى في إدلب، وتنشط هناك حكومتان؛ الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف الوطني، وحكومة الإنقاذ، التي تديرها بصورة غير مباشرة تحرير الشام الموصوفة بذراع «القاعدة». وتوجد في إدلب جماعات الدعوة إلى المصالحة مع نظام الأسد، وقد تعرضت في الأشهر القليلة الماضية إلى ملاحقات واعتقالات من أطراف مختلفة.
وسط تكوين سياسي وعسكري معقد، تواصل إدلب مرحلتها الانتقالية في معركة داخلية تتصادم فيها إرادات وقوى متعددة، تتوزع بين الاعتدال والتطرف، ويمثل جانب الاعتدال فيها الطرف الشعبي- المدني الناهض، الذي يسعى لحماية المنطقة من اجتياح مرتقب، ويعمل لوضعها في سياق تطور مختلف، وطرف متشدد متطرف، ويسعى لمشروع متطرف ظلامي أساسه جماعات متشددة، لا يمانع مواجهة خاسرة بالمعطيات الحالية، يمكن أن ينسحب منها على نحو ما فعل في حلب عام 2017، وفي غوطة دمشق الشرقية عام 2018، ولأن الوضع على هذا النحو، فإن معركة إدلب الداخلية تبدو مهمة، سواء في جانبها السياسي أو الميداني - العسكري.
ففي الجانب السياسي من المعركة. ثمة صراع بين تيار شعبي- مدني ينادي بعودة الثورة إلى مساراتها السياسية الأولى، وتيار متشدد في تأييد العسكرة ومندفع للمواجهة المسلحة باعتبار أنه لم يعد أمام السوريين خيارات أخرى في مواجهة احتمالات اجتياح إدلب والمناطق المحيطة بها، فيما الضعف يحيط بالتيار الداعي للعودة بالثورة إلى شعاراتها الأولى، إذ لا تتوفر له قيادة فاعلة وموحدة ولا رؤية سياسية واضحة، وليس له سند إقليمي أو دولي يدعمه باستثناء هامش تركي بسيط، بينما يستمد الشق الثاني من أنصار العسكرة قوته من غالبية التشكيلات المسلحة وأبرزها هيئة تحرير الشام، وقد سعت في المظاهرات الشعبية، التي شهدتها إدلب وجوارها في الأشهر الأخيرة للسيطرة على الحراك الشعبي- المدني، وتوظيفه لصالحه، رغم مساعي الحراك لإظهار استقلاليته عن التشكيلات المسلحة.
الجانب الثاني في معركة إدلب الداخلية، يمثله الصراع العسكري وطرفاه الأساسيان جبهة تحرير الشام، التي تمثل واجهة لجبهة النصرة المتطرفة وبعض حلفائها والجبهة الوطنية للتحرير التي دعم الأتراك تشكيلها من بقايا تنظيمات الجيش الحر وفصائل إسلامية معتدلة، وأساس الصراع بين الطرفين سعي كل منهما للسيطرة على أوسع حيز ميداني في المنطقة، وتتعدد أوجه الصراع ما بين الهجمات التي يقوم كل طرف بها إزاء الآخر، وما يوصف بأنه عمليات محدودة لإعادة الانتشار، وأخرى تندرج في إطار ملاحقات أمنية لدعاة المصالحة مع نظام الأسد وللخلايا النائمة الموالية لـ«داعش».
ورغم أهمية الجانبين السياسي والعسكري في معركة إدلب الداخلية، فإنه لا يمكن فصل المعركة، عما يحيط بها من قوى لها تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على المعركة، ولعل الأهم والأبرز في تلك القوى تركيا وروسيا، التي تقع إدلب تحت تأثيرهما المباشر نتيجة وقوعها في منطقة وقف التصعيد المتفق عليه بين الجانبين والمختلفين في آن معاً في أهدافهما التفصيلية حول ما يمكن أن تكون عليه إدلب. فالروس يرون أن ما ينبغي القيام به في إدلب سيؤدي إلى إعادة المنطقة إلى سيطرة نظام الأسد وتحقيق مصالحهم، فيما يرى الأتراك، أن المطلوب القيام به، يجب أن يكون مرحلة في حل إجمالي للقضية السورية، يعطي لتركيا دوراً مهماً، يؤمن مصالحها، وخصوصا في مواجهة الوجود الكردي في الشمال السوري الذي تعتبره تركيا خطراً إرهابياً، يلحق الضرر بالأمن القومي التركي.
كما يحيط بإدلب وجود عسكري لكل من نظام الأسد وإيران، حيث جرى حشد قواتهما في محيط المنطقة، تمهيداً لاقتحامها على غرار ما حصل سابقاً في غوطة دمشق والجنوب السوري والقلمون وريف حمص، وكلاهما ينتظر ما يمكن أن تتمخض عنه مساعي روسيا في إطار خفض التصعيد في إدلب، خصوصاً أن روسيا ستوفر القوة الجوية الحاسمة في أي هجوم مرتقب على إدلب ومحيطها.
وتنتشر في محيط المنطقة قوات سوريا الديمقراطية «قسد»، التي تمثل قوات الحماية الكردية المتحالفة مع الأميركيين، وهي تنوس في موقفها بين اتصالات تركية - أميركية من أجل توافق على القضايا المختلف عليها بما فيها المصير النهائي لإدلب ومحيطها، وبين اتصالات تجري بين قسد ونظام الأسد، يمكن أن تجعل قسد تنضم إلى عملية النظام المرتقبة للسيطرة على إدلب ومحيطها.
وكما هو واضح، فإن القوة الداخلية في إدلب ومحيطها محدودة مقارنة بالقوة المحيطة. خصوصاً أن جزءاً منها، يبدو ملحقاً بالقوى الخارجية ولا سيما بالقوة التركية، التي عززت وجودها في المنطقة عبر مسارين، أولهما حملتا درع الفرات وغصن الزيتون، والثاني دعم مراكز المراقبة التركية لمنطقة خفض التصعيد، والتي حولت تلك المراكز حصوناً ومحطات، يمكن الاستناد إليها في أي عمليات عسكرية، يمكن أن تشهدها المنطقة.
ورغم محدودية القوة الداخلية في إدلب وما يبدو فيها من ضعف، فإن نتائج المعركة الداخلية فيها، ستقود إلى واحدة من نتيجتين: انتصار تيار الاعتدال الذي سيؤدي إلى تسوية هي أحسن ما يمكن في ضوء المعطيات الحالية، أو انتصار تيار التطرف الذي سيحمل كارثة مؤكدة للمنطقة وسكانها، تفوق فظاعتها كل ما سبق وواجه السوريين من جرائم ارتكبها الأسد وحلفاؤه في السنوات الماضية.