أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

«اللجنة الدستورية» وخيارات المعارضة السورية

تتباين مواقف جماعات المعارضة السورية، وردود أفعالها، في التعاطي مع مبادرة المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، ستيفان دي ميستورا، بمنح الأولوية في مفاوضات جنيف لتشكيل لجنة دستورية تتألف من مائة وخمسين عضواً، يُسمي النظام ثلثهم، وآخر تسميه المعارضة، والثلث الباقي يضم مستقلين من المجتمع المدني، منهم كفاءات قانونية وعلمية وممثلون عن النساء والعشائر ومختلف المكونات القومية والدينية والطائفية في المجتمع، على أن تكون مهمة اللجنة وضع دستور جديد للبلاد يخضع للاستفتاء الشعبي، وتبنى عليه الانتخابات النيابية والرئاسية.
ثمة معارضون سوريون رحبوا بهذه المبادرة، وشجعوا المشاركة فيها، واعتبروها خياراً وطنياً مسؤولاً في ظل النتائج الكارثية والمؤلمة التي أسفرت عنها ثماني سنوات من الحرب والخراب، مطالبين بالنظر بعين واقعية إلى ما آلت إليه أحوالنا مع الاستعصاء المزمن لمفاوضات جنيف والمكاسب العسكرية الأخيرة التي حققها النظام وحلفاؤه، وتالياً إلى ضرورة تلمس الممكن بعيداً عن الرغبات والأمنيات والمزايدات، تحدوهم أسباب وحسابات تذهب، أولاً، إلى اعتبار هذا الخيار بمثابة النافذة الوحيدة الممكنة اليوم للتقدم في العملية السياسية، بعد أن ضاقت سبل الخلاص من صراع دموي أنهك الجميع، وثانياً، إلى الاستقواء بالموقف الذي أعلنه وزراء خارجية أميركا ودول أوروبية وعربية على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، والذي يدعم اللجنة الدستورية، ويشترط تعاونهم في إعادة إعمار البلاد، بنجاح تشكيل اللجنة الدستورية وقدرتها على تحقيق اختراق سياسي، وثالثاً، إلى أن المعارضة لن تخسر شيئاً من هذه المشاركة، بل إن المتضرر الوحيد هو النظام الذي يتخوف من أن تفتح أعمال هذه اللجنة كوة في مشروع التغيير السياسي الذي يرفضه جملة وتفصيلاً، بدليل موافقته على مضض، وبفعل الضغط الروسي، على المشاركة فيها! ولعل ما يزيد حماسة أصحاب هذا الخيار، أن روسيا التي دعمت في البداية هذه اللجنة بدأت اليوم تضع العراقيل والاشتراطات حول آلية عملها، حول رئاستها ونسبة التصويت الملزمة، وحول الطريقة التي سيتم بها اختيار ممثلي المجتمع المدني.
في المقابل، إذا استثنينا المعارضة الإسلاموية المسلحة التي لا تقيم اعتباراً سوى لمشروعها الديني، وترفض الاحتكام لقانون أو دستور، ثمة أطراف معارضة ترفض رفضاً قاطعاً المشاركة في اللجنة الدستورية، وإن اختلفت الأسباب والحجج، فبعضهم يراها مجرد محطة لتعويم السلطة وتلميع صورتها ما يعيد إنتاج منظومة القمع والاستبداد، ويجهض حلم السوريين في الانتقال إلى دولة المواطنة والديمقراطية، والبعض الآخر يعتقد أن المعضلة ليست في الدستور، بل في بنية النظام الأمني القائم، الذي يمتلك ما يكفي من القدرة والخبرة على تطويع كل القوانين والدساتير وفق أهوائه، ويذكرون بالمصير الذي وصل إليه الدستور الجديد الذي أصدره النظام نفسه عام 2012، وكيف صار عرضة للاستهزاء والسخرية بعد أن حاصرته القوانين الاستثنائية والعرفية، بينما يحذر البعض الثالث من خطورة هذا الخيار، وأنه لن يغرق فقط المعارضة السورية في خلافات جانبية حول نقاط الدستور، وإنما سيمكن النظام من الالتفاف على القضايا الأساسية كهيئة الحكم الانتقالي والملفات الإنسانية، بما في ذلك التهرب من محاسبة المرتكبين في استخدام السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة، وفي جرائم التعذيب والقتل في السجون والإخفاء القسري، والأسوأ أنه يقفز على القرار الدولي رقم 2254 ويفرغه من مضمونه، الذي ينص على قيام مرحلة انتقالية وهيئة حكم كاملة الصلاحيات وغير طائفية، يصاغ بعدها ومن خلالها الدستور الجديد لسوريا!
وبين هذا وذاك وبعيداً عن التصريحات الحادة لبعض شخصيات المعارضة، والمشادات المؤسفة بينهم، التي وصلت حد تبادل الاتهامات، ثمة من يضع اشتراطات لدعم اللجنة الدستورية، ويعتقد أنها قد تمنع النظام وحلفاءه من استثمار هذه المبادرة لفرض شروطهم وإملاءاتهم، منها أولوية أن تتجاوز المعارضة خلافاتها، وتشارك موحدة في أعمال هذه اللجنة، ما يمنحها قوة للتمسك مبدئياً بالقيم والقوانين المستمدة من قواعد الحياة الديمقراطية والشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وبمطلب الحكم الانتقالي وإخضاع الانتخابات البرلمانية والرئاسية للرقابة الأممية، وتالياً للتمسك بصياغة دستور يلائم ثقافة المجتمع السوري وتاريخه وتعدد مكوناته، وينبذ فكرة المحاصصة الطائفية والدينية التي عادة ما تنتج دولاً ضعيفة وعاجزة، والأهم دستور يكرس الحريات وحقوق الإنسان، ويستند إلى فصل السلطات وإعادة بناء المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية، مانحاً الجهات القضائية قوة المحاسبة وإصدار الأحكام بحق كافة الجهات والشخصيات المرتكبة من دون تردد أو خوف.
لقد أسبغ محك اللجنة الدستورية وتباين مواقف المعارضة السورية منها، على صورتها الضعيفة والمضطربة أصلاً، المزيد من الضعف والاضطراب، وبدت كالضائعة في متاهات هذا الاجتهاد الدولي، وإذا أضفنا ارتباط مصير هذه اللجنة وما يعول عليها بلعبة الأمم والمصالح، التي تحكمها حسابات الربح والخسارة في معارك النفوذ الإقليمي، وصعوبة إطفاء بؤرة توتر في بلد يرتبط مصيره بأهم الملفات الشائكة في المنطقة، وأضفنا أيضاً عجز المعارضة المزمن عن قيادة الحراك الشعبي، ودورها غير المقرر على الأرض، بعد تمدد المنظمات الإسلاموية المسلحة وجماعات متطرفة لا تهمها التسويات والحلول السياسية، يمكن أن نفسر شيوع حالة من استخفاف السوريين بمكانتها وقدراتها، وانحسار رهانهم على فاعليتها ودورها في تحويل اللجنة الدستورية إلى طوق إنقاذ، خصوصاً أنهم قد محضوها ثقتهم في أكثر من مرحلة ومحطة، ولكنها خيبت أملهم في دور سياسي نشط ومؤثر كانوا ينتظرونه منها.
والحال، ومع التشكيك المبرر بقدرة اللجنة الدستورية على اجتراح المعجزات وضعف التعويل عليها لحلحلة الأزمة السورية المستعصية، يرجح أن يكون مصيرها مصير قرارات عدة صدرت حول الشأن السوري، وأبرزها هيئة الحكم الانتقالي، التي مثلت في حينها أملاً لخلاص السوريين، ولكن سرعان ما تبددت على وقع الميل للحسم العسكري، ووضوح خلافات يصعب تجاوزها بين الأطراف الخارجية المؤثرة والمقررة في المشهد السوري، فكيف الحال وقد أدرك الجميع وخبروا أن الدول الضامنة أو الداعمة لا تملك أساساً المصداقية والجدية لدعم هذا الخيار إلى النهاية، ويصعب توافقها على فرض تسوية سياسية شاملة ترضي غالبية السوريين وتضمن أبسط حقوقهم.