سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

فلما اكتشف السرعة

في البداية كان مقياس السرعة عند الإنسان: الخيل والبغال والأفيال. فركبها وألقى عليها حمولته وعتاده، وذهب يحتل أراضي أخرى، وينكّل بأهلها، وينهبهم ويقتلهم ويرفع شارة النصر. وكانت تلك السرعة البرِّية.
ثم اكتشف المراكب، فحمّلها مؤونته وعتاده ومخر البحار إلى بلاد أخرى ينكل بأهلها، ويقتلهم، ويبيدهم وينهب أرزاقهم، ويحتل بيوتهم. وكانت تلك السرعة البحرية.
ثم صنع الطائرات، فركبها وحمّلها قنابله، النووية أحياناً، وعلا في الأجواء، يقصف ويدمر ويقتل ويحرق ويسمم، ثم يهبط ليحتل. وكانت تلك السرعة الجوية.
أول ما فكر فيه الإنسان على الخيل وفي البحر وفي الجو، أرض سواه ومقتنياتهم، وغالباً أرواحهم. وكلما قتل الآلاف من الناس، وخرب الآلاف من البيوت، وداس على الآلاف من جثث الأطفال، رفع شارة النصر. قاتله بطل وفقيده شهيد، ومقاتل عدوه جبان، وفقيده جثة.
كم غيّرت السرعة في حياة البشر، وكم خرّبت. صغَّرت حجم العالم وكبَّرت قلق البشر. وصارت أجواء العالم أكثر اكتظاظاً من الطرقات. والناس تنتقل من أرضها إلى أرض سواها، مرة بطائرة عسكرية مقاتلة، ومرة بطائرة مدنية مليئة سياحاً. أما لاجئو المجاعات والظلم والقهر، فبحراً وبراً وجواً وأنفاقاً.
اخترع الإنسان كل شيء في البداية من أجل عدوانه، ثم تطورت السرعات من أجل حياته ومعيشة أفضل. وصار يعود من غزواته ومعه ثقافات جديدة ومعرفة أخرى وخبرة في الطبابة والعلوم. أما الأساس في الحضارات القديمة، فظل الحرب: إسبارطة تحارب أثينا، وأثينا تحارب إسبارطة، وروما تحارب الجميع.
كل شيء وقعت عليه يد الإنسان سارع إلى استخدامه في الحرب أولاً. الخيل والأفيال والسفن والمدافع والطائرات. وعندما وصل السوفيات إلى مدار الأرض، خاف الأميركيون أن يأتي يوم يرشقونهم بالصواريخ من فوق.
ثم تعاونوا معاً في صناعة السفن الفضائية. لكن تخيّل لو أن كل هذا المال والعلم والعبقرية والوقت صُرف على التعاون في صناعة الأدوية، أو البحث عن رديف للمياه العذبة، أو تلقيح التربة في الصحاري.
ها هم الأميركيون والروس وغيرهم يعيشون في عصر جديد من السرعة: الفضائية. وفي كل فترة، يرسلون جرماً إلى المريخ، أو كوكب سعيد آخر. والمطلوب ألاّ يظل مليار بشري دون طعام.