د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

دي ميستورا بين الفشل وخيبة الأمل

مع قرار المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا الاستقالة من مهمته في نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، أصبح الحديث عما قدَّمه بالنسبة للأزمة السورية وما يتعلق بتطبيق القرار الدولي رقم «2254» الصادر في ديسمبر (كانون الأول) 2015، معلقاً بن تقييمَيْن رئيسيين؛ أحدهما الفشل، والثاني هو خيبة الأمل، ولكل منهما أساس ودلائل.
مهمة دي ميستورا استمرَّت أربع سنوات وثلاثة أشهر، وقد تمتد شهرين آخرين لحين تعيين مبعوث جديد، هو الرابع بعد كل من كوفي عنان والأخضر الإبراهيمي ودي ميستورا نفسه.
والمؤكد أن مهمة الخليفة الجديد أياً كان لن تكون أكثر يسراً مما كانت عليه مهمة سلفه، فالتعقيدات نفسها ما زالت قائمة، وعمليات الالتفاف على جوهر التفويض الدولي لم تتوقف.
في السنوات الأربع الماضية حدث كثير على الأرض؛ تحولت فيها التوازنات بشدة لصالح الحكومة السورية وحلفائها على حساب كل من فصائل المعارضة السورية بشقيها السياسي والمسلح، والمنظمات المسلحة العابرة للحدود وغالبيتها تندرج تحت تصنيف الإرهاب الدولي بمعايير الأمم المتحدة، وكثير من الدول، كما زاد فيها الوجود الإيراني عسكرياً وسياسياً ومعنوياً، ويبقى الدور الروسي وله الأولوية في تشكيل هذه التوازنات الجديدة منذ تدخله العسكري في سبتمبر (أيلول) 2015، ويتوازى معه حضور تركي عسكري لافت في الشمال السوري، وتفاهمات وتنسيق عالي المستوى بين موسكو وأنقرة، لا سيما في الأشهر الثلاثة الماضية، التي نتج عنها الاتفاق الخاص بإنشاء منطقة عازلة في إدلب، ونزع السلاح الثقيل من أيدي الجماعات المسلحة بأشكالها المختلفة.
ولا ننسى الإشارة إلى الوجود العسكري الأميركي سواء في قاعدة التنف بالقرب من مثلث الحدود السورية الأردنية العراقية، والوجود الآخر في منبج وما حولها، والدعم المقدم للأكراد ولقوات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية، ناهيك عن الضربات الإسرائيلية بين حين وآخر.
هذه المتغيرات التي استقرت على النحو الراهن، شكَّلَت بدورها ضغوطاً وصعوبات وتعقيدات لمهمة السيد دي ميستورا؛ فالرجل لم يعمل في بيئة ثابتة يمكنه أن يتحكم في أي من عناصرها. لقد كان مفوضاً أممياً، وفي مهمة محددة، وهي تطبيق القرار «2254» وبيان جنيف الثاني، غير ذلك لا شيء. الآخرون هم الذين يحملون الأسلحة وينطلقون على الأرض، ويغيرون المعالم الجغرافية والديموغرافية.
الغلبة المعنوية للمبعوث الدولي دي ميستورا أو غيره من المبعوثين الدوليين في مهام أخرى مرتبطة أساساً باحترام أطراف الصراع لتلك الغلبة، وليس تجاوزها أو محاولة تطويعها لتفسيرات معينة لا علاقة لها بأصل التفويض الدولي. هذا ما حدث بالنسبة لدي ميستورا، مع ذلك كان يصف نفسه بـ«الدبلوماسي المتفائل»، ساعياً إلى بث روح الأمل واليقين لدى فريق بعثته المرهق.
البحث عن حل سلمي ليس أمراً سهلاً، إذا لم ترغب الأطراف المعنية في التجاوب مع متطلبات هذا الحل، وتقديم التنازلات التي لا مفر منها. هو نفسه قدم تنازلات، وحاد نسبياً عن التفويض الواضح في القرار «2254»، وأعاد النظر مكرها في أولويات القرار تمشياً مع التطورات العسكرية والضغط الروسي واللامبالاة الأميركية.
الترتيب كما هو وارد في القرار «2254» وبيان جنيف الثاني، يتضمن وقفاً لإطلاق النار وتشكيل حكومة أو هيئة انتقالية كاملة الصلاحيات، تدير وتصلح وتضع الدستور، ثم انتخابات برلمانية وأخرى رئاسية تحت إشراف الأمم المتحدة.
وجد الرجل أن تشكيل الهيئة الانتقالية دونه صعاب وعقبات لا يمكنه أن يتخطاها، خصوصاً أنه قبل سنوات كانت العمليات العسكرية هي الغالبة والحرب على منظمات الإرهاب لها الأولوية لكل من موسكو وواشنطن ودمشق. كان الممكن نظرياً مجرَّد متابعة الاتصالات مع الأطراف المعنية في جنيف أو فيينا، وهنا برزت عقبة انقسام وتعدد قوى المعارضة السورية، سواء السلمية أو المسلحة، التي ما زالت قائمة.
تعدَّدَت جهود الرجل في أكثر من محور، ومورست عليه الضغوط من الكل. وبدلاً من أن تقدم الأطراف المعنية بالأزمة التنازلات المطلوبة، قام هو نفسه بإعادة تعديل الأولويات، ورغم أن بيانه الذي قدمه إلى أطراف الأزمة في فبراير (شباط) 2017 تضمن رؤية شاملة من عشرة بنود، فقد حملت التطورات على الأرض، لا سيما بعد تشكيل مناطق خفض الصراع، اتجاهاً ثلاثياً روسياً - إيرانياً - تركياً لصياغة أولويات تراعي توزيع النفوذ الفعلي على الأرض، وهو ما تبلور في لقاء سوتشي الروسية في يناير (كانون الثاني) من العام الحالي بالاتفاق على البدء بتشكيل لجنة إعداد الدستور دون ذكر لهيئة أو حكومة انتقالية، مع تحميل دي ميستورا مسؤولية رعاية عمل اللجنة لإضفاء الشرعية الأممية عليها. كانت موسكو تريد شرعية دولية لجهودها من خلال مشاركة المبعوث الأممي، وفي الآن نفسه التأثير على مسار جنيف، الذي أصيب عملياً في الصميم رغم أن دي ميستورا كان يصرّ دائماً على أنه المسار الأصلي والوحيد الذي يجب أن تمر منه الحلول السلمية المرتقبة.
عملياً لم يكن هناك خيار سوى التفاعل الإيجابي مع الأمر، وفي التفاصيل فقد حاول الرجل أن يضفي على الخطوة لمسة أممية، بأن يجعل تشكيل اللجنة مقسماً إلى ثلاث مجموعات، ترشح الحكومة إحداها، والثانية ترشحها المعارضة بأطيافها الثلاثة، والأمم المتحدة ممثلة في بعثته ترشح الثالثة بحيث تشمل الفئات المهمشة كالمرأة والقانونيين المخضرمين وممثلي المجتمع المدني والأقليات.
لكنه اصطدم برفض سوري - روسي، وكلاهما وصف الأمر بأنه تجاوز لمهمته، لا لشيء إلا أنه أراد أن يضفي صدقية وتوازناً أكبر على مهمة صياغة دستور جديد لسوريا جديدة.
في آخر إفاداته لمجلس الأمن في 17 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، كان دي ميستورا صريحاً، بالقول إن الحكومة السورية تتحمل مسؤولية تعطيل إطلاق اللجنة الدستورية، التي يأمل أن يتم البدء في أعمالها قبل نهاية نوفمبر المقبل، حيث موعد استقالته، مشيراً إلى أن التعطيل يعود إلى عدم الموافقة السورية وأيضاً الروسية على إضافة 50 مشاركاً في اللجنة الدستورية تختارهم الأمم المتحدة من الفئات المستبعدة من طرفي النزاع.
عشرة أشهر مرت على جهوده وجهود أطراف «آستانة» الثلاثة؛ روسيا وإيران وتركيا، لتشكيل اللجنة الدستورية المنتظرة ووضع آليات عملها وتحديد رئاستها، فهل تكفي أربعة أسابيع لكي يفلح الرجل في إقناع الحكومة السورية وموسكو في قبول هذا التشكيل الجامع، بغرض تحقيق صدقية وتوازن في عمل اللجنة ومن ثم دفع العملية السلمية إلى الأمام.
بالقطع لا تكفي المدة الباقية لمهمة دي ميستورا. هكذا ظاهر الأمر يصب في الإقرار بالفشل، وفي جوهره خيبة أمل ساقتها الأقدار على نحو كان أكبر من كل محاولة للتكيف مع جديد الأحداث والوقائع.