إميل أمين
كاتب مصري
TT

«مستقبل الاستثمار»... العقلانية تنتصر

على غير شهوة قلب الكثيرين ممن لا يحملون للمملكة العربية السعودية مشاعر طيبة، انطلقت بالأمس فعاليات مبادرة مستقبل الاستثمار، التي شاركت فيها وفود كبيرة من مختلف دول العالم، من خبراء ورياديين في مجالات الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي، وغيرها من القضايا الحديثة التي باتت مطروحة على طاولة النقاشات الدولية.
فشلت أبواق الشر التي دعت إلى مقاطعة المؤتمر، الأمر الذي يعني أن العقلاء في عالمنا أكثر من الحمقى، وأن هناك من يفرّق تفرقة جيدة وواعية بين الخطأ البشري والمحاسبة أو المسؤولية عنه، وبين الخيارات الشمشونية التي لا تعجب إلا دعاة الموت وحفاري القبور شرقاً وغرباً.
لا يعرف الاقتصاد لغة العواطف، بل الأرقام هي التي تتحدث، وهي براغماتية طبيعية في عالم المال والأعمال، والمؤكد أن كبرى الشركات والمؤسسات المالية الدولية التي شاركت في المؤتمر قد وضعت في عين اعتبارها أنها تتعاطى مع أحد أهم الاقتصاديات حول العالم في الحال، والمرشح للمزيد من النمو والازدهار في الاستقبال.
تبلغ الاحتياطيات النقدية للاقتصاد السعودي نحو 1.8 تريليون ريال أي 480 مليار دولار، وتتمتع الأسواق الاقتصادية للمملكة بنسبة نمو بلغت 1.4 في المائة، ما يؤكد قوة وأهمية الرياض ومحوريتها في العالم على الصعيدين الاستثماري والاقتصادي.
أكثر من 150 متحدثاً خلال أكثر من 40 جلسة، ونقاشات مفتوحة وورش عمل، إضافة إلى منتديات جانبية ركزت على ثلاث ركائز: الاستثمار في التحول، والتقنية كمصدر للفرص، عطفاً على تطوير القدرات البشرية.
يدرك كبار العقلاء والمهرة من الاقتصاديين المشاركين أن هناك إرهاصات عديدة تناولتها وتداولتها الأخبار في الأشهر القليلة المنصرمة عن مخاوف تنتاب العالم من أزمة مالية قادمة، قد تتسبب للعالم في كوارث أوقع ضرراً مما جرت به الأزمة المالية الأميركية في العام 2007 - 2008، ولهذا فإن التفكير الأممي يمضي اليوم في سياق البحث عن أماكن جديدة وأسواق متجددة للاستثمار، وليس أفضل من المملكة في هذا الإطار.
حين يتحدث مدير عام صندوق الاستثمار السعودي عن رؤيته لمبادرة مستقبل الاستثمار يوقن المرء أنْ لا شيء يمكنه أن يقف في طريق رؤية المملكة الواقعية للتنمية والقفز على خانة الاقتصاد الريعي التقليدي، ذلك المرتكن بالأصل على العوائد النفطية، والتحليق في آفاق جديدة من الصناعات المحلية متنوعة الاتجاهات ومختلفة الخدمات.
يؤكد السيد ياسر الرميان مدير عام الصندوق، أن الهدف الأكبر بالنسبة إلى القائمين على المشهد الاقتصادي السعودي في أوقاتنا الحالية يتمثل في أن يكون حجم الاستثمارات تريليوني ريال عام 2030، وحال تفكيك هذا الرقم فإن النتيجة ستضحى ملايين من فرص العمل بالنسبة إلى الشباب السعودي في الداخل، وعبوراً إلى عوالم وعواصم اقتصادية عالمية برؤاها المغايرة والتماهي معها بما يُكسب الشباب في المملكة الخبرة والحصافة، وبما يتيح الاستثمار في البشر معرفياً قبل أن يكون الأمر مجرد تطلع إلى حفنة دولارات.
ولعل هناك ما أكسب هذا المؤتمر قيمة مضافة في هذا الوقت الحرج، ويتمثل في عمق ورصانة القضايا المطروحة والتي تتجاوز في واقع الأمر الرؤية الضيقة لاقتصاد محلي أو إقليمي بعينه، وإنما تتوق لتشكيل رؤية كوسمولوجية عن واقع الاقتصاد والأعمال، والتجارة والتعاون الدولي.
خذ إليك على سبيل المثال بعض القضايا التي تم طرحها للنقاش في أروقة المؤتمر ومنها قضية الرؤية المشتركة لمستقبل التجارة العالمي، وهل سيتمكن قادة الأعمال التجارية وقادة الحكومات حول العالم من وضع خطوط طول وعرض لها أم لا؟
المسألة الشائكة المتقدمة باتت مثار قلق في العامين الأخيرين، سيما في ضوء التوجهات التي تضيف حمائية غير عادية للسلع والمنتجات الأميركية، فيما يقوم أيضاً بفرض جمارك عالية تقدَّر بالمليارات على الصين والاتحاد الأوروبي بنفس القدر، وعليه يبقى السؤال: هل تستقيم أحوال التجارة الدولية في هذا السياق، وبعد أن بدت العولمة تتراجع من جديد لصالح القوميات الصاعدة يمينياً وشوفينياً، وبعد أن أثبتت النيوليبرالية الرأسمالية إخفاقاتها العديدة في معالجة قضايا الساعة أممياً؟
للمملكة نصيب وافر من حوارات هذا المؤتمر عبر خططها للمشاريع العملاقة التي تتطلع إليها، والتي تشكل منظومات اقتصادية قائمة بذاتها وفي المقدمة منها مشروع «نيوم» العملاق على ساحل البحر الأحمر، ومشروع «القدية»، وغيرها من القراءات الاقتصادية المثيرة لتفكير المستثمرين الأجانب والباحثين عن فرص جيدة لنمو أعمالهم.
ضمن موضوعات المؤتمر، ذلك المنتدى الذي يباشر أعماله للمرة الثانية، قضايا التقنية والتي باتت تشكل اقتصاديات العالم الجديد، وعلى غير المصدِّق النظر إلى القيمة السوقية لشركات مثل «أمازون» ونظيراتها، وكيف باتت كيانات ما بعد عملاقة، وتتجاوز فكر الشركات عابرة القارات أو متعددة الجنسيات، وإلى أيّ مدى سوف تغير استثمارات رؤوس الأموال الجريئة مستقبل الابتكار في عالم اليوم، ومدى تقاطع وتنازع ما هو محلي بما هو عالمي.
هناك ملاحظة جيدة ينبغي التوقف أمامها في المؤتمر، وهي انتقال رؤوس الأموال من الغرب إلى الشرق الآسيوي وبنوع خاص إلى الصين، حيث شارك مسؤولون تنفيذيون كبار من شركات آسيوية، وعليه يمكن القطع بالقول: إن حضور اليابانيين والصينيين يجعل المؤتمر، الذي ينعقد لثلاثة أيام، نشطاً بما يكفي ليحقق النجاح المأمول رغم المقاطعة التي أبداها البعض.
بعد عشر سنوات من الأزمة المالية العالمية الأخيرة، يدرك الحكماء أن الطروحات المتأججة لا تحل الإشكاليات، وأن العالم في حاجة ماسّة إلى هدوء وعقلانية لمواجهة الأخطاء الإنسانية، حتى وإن بلغت مرحلة الخطايا التي ننكرها وندينها، والمملكة قائمة على قدم وساق في طريق إحقاق الحق وصيانة العدل.
لن تتوقف مشروعات التنمية في المملكة، والمتغيبون كيداً أو كرهاً لن يكون لهم نصيب من فرص الاستثمار، في بلد بات وعن حقٍّ، المحرك الرئيسي لعجلة التنمية في الشرق الأوسط في جميع المجالات، ودولة لا تحتاج إلى تمويلات خارجية لدفع عجلة اقتصادها إلى الأمام.
المملكة العربية السعودية وفيّة للأصدقاء والمخلصين، وتعرف كيف تواجه الشامتين والحاقدين، أما الأعداء فلا مكان لهم، وفي كل الأحوال تمد جسورها للعالم ولا تقيم الجدران، وتذكر بالخير والعرفان من يتعامل معها بالاحترام ولا يتدخل في شؤونها ويحترم سيادتها وخصوصيتها.