د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

البترول والسياسة

البترول مصدر من مصادر الطاقة، أما السياسة فهي التعبير عن «القوة» وتوازناتها وأساليب ممارستها للتأثير في الآخرين، وفي الشرق الأوسط والعالم، فإن العلاقة بين النفط والسياسة معقدة غاية التعقيد. وربما وسط كثير من الأحداث المحزنة والمثيرة في المنطقة، فإنه من الضروري دوماً التأكيد على بعض الأساسيات التي هي بطبيعتها الأكثر أهمية، وأطول عمراً في الوجود.
ومناسبة هذا الحديث أنه في الوقت الذي كان فيه الإعلام العالمي يتنفس الحديث عن منطقتنا وعلاقتها بالولايات المتحدة ورئيسها دونالد ترمب، فإنني شاركت في مؤتمر عن النفط، وكان من الطبيعي أن تكون السياسة وما يحدث فيها حاضرة مثل «الفيل» في قاعة الحديث عن البترول. وعلى سبيل التنويه، فإن النفط ارتبط دوماً بنوعين من الصدمات التي تكون لها تأثيرات واسعة في المستويات الإقليمية والعالمية؛ النوع الأول كان تحت اسم «سلاح النفط» واستخدامه في الصراع العربي - الإسرائيلي سواء كان ذلك بالتهديد بوقف إنتاجه، أو وقف إنتاجه كلياً أو تدريجياً، أو مقاطعة دولة بعينها.
المثال الشهير كان إعلان الدول العربية أثناء حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 تخفيض إنتاج البترول تدريجياً بنسبة 5 في المائة شهرياً، ومقاطعة كل من الولايات المتحدة وهولندا. أما النوع الثاني فهو حدوث ارتفاع حاد في أسعار النفط أو على العكس تماماً حدوث انخفاض حاد في الأسعار، فحين يحدث الارتفاع تتأوه دول، وتنتعش دول أخرى، بينما حينما يحدث العكس يكون الألم والسعادة معكوسين أيضاً. وفي وقت من الأوقات كان الشائع أن الارتفاع والانخفاض مرتبطان بالصراع العربي - الإسرائيلي، ثم باتا مرتبطين بالصراع العربي - الإيراني، وأخيراً فإنهما باتا مرتبطين بالتقلبات السياسية في الدول المنتجة للنفط، فالثورة الإيرانية، أو أحداث فنزويلا، أو الأعمال الإرهابية في نيجيريا عوامل أساسية في حالة دول العالم، وما تعانيه من تعاسة أو تشعر به من سعادة.
وقبل عقد من السنوات تقريباً، بدأت أسعار النفط في الارتفاع التدريجي، وكان الخبر عالمياً عندما تعدى سعر البرميل 100 دولار، وعندما وصل إلى 125 دولاراً كتبت مقالات عن الوقت الذي سوف يصل فيه سعر البرميل إلى 200 دولار. لم يحدث ذلك، وعندما وصل السعر إلى 147 دولاراً في منتصف العقد بدأت الأسعار في التراجع تدريجياً في البداية، أو كأنها سقطت من حالق فيما بعد، حتى وصلت إلى 30 دولاراً للبرميل، ولفترة قصيرة هبط السعر إلى 27 دولاراً، وهنا نشرت مقالات عما إذا كان السعر سوف يهبط إلى 15 دولاراً. لم يحدث ذلك بالطبع، وعلى العكس بدأت أسعار النفط في الارتفاع مرة أخرى وعندما تعدت 50 دولاراً للبرميل، قدر المنتجون والمستهلكون أنه ربما آن الأوان للوصول إلى سعر «عادل» للبرميل، ولكن المعضلة كانت كيف تكون العدالة في القضية النفطية، وعما إذا كان ذلك يكون عند 60 دولاراً أو 70. على أي الأحوال، فقد وصلت الأسعار إلى 80 وتعدتها إلى 86، وساعة انعقاد المؤتمر المذكور في واشنطن فإن الأسعار كانت تتأرجح بين هذه وتلك. عدد من الخبراء يرون الأمر كله متوقفاً على العرض والطلب، وأنه حتى الأحداث السياسية لا توجد لها أهمية في حد ذاتها، وإنما في مدى تأثيرها في جانبي العلاقات السوقية. وفي الحقيقة، فقد طرح واحد من أهم الخبراء المشاركين أنه لم تكن هناك علاقة تذكر بين أحداث الشرق الأوسط وأسعار النفط، فقد جاء الربيع العربي وذهب، وصعد الإخوان و«داعش» وهبطوا وهزموا، ولكن ذلك لم يكن له دخل لا بصعود ولا هبوط الأسعار. وحتى العامل التكنولوجي الخاص بالتوجه نحو الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية، أو ظهور المخترعات الجديدة مثل السيارات الكهربائية، فإنه لا يُنتظر منها تأثير يذكر حتى منتصف القرن الحالي، وحتى هذا فيه شكوك كثيرة.
الأسباب أولها أنه رغم كثير من السياسة (الضغوط الأميركية لتخفيض أسعار النفط) والتغيرات التكنولوجية المثيرة، فإن الطلب على النفط يتزايد، فقد ارتفع أثناء العقد الحالي من نحو 92 مليون برميل نفط يومياً إلى أكثر من 100 مليون برميل، وهو ارتفاع يعود في جزء منه إلى تزايد استهلاك الصين والهند من النفط، وكذلك لأن المنتجات البتروكيماوية باتت مع محطات الكهرباء تستوعب كثيراً من الإنتاج، وقد تكون هي الفيصل في استمرار الأهمية الاستراتيجية للسلعة. فالحقيقة أن المواصلات بأشكالها المختلفة لا تستهلك إلا 55 في المائة من الإنتاج النفطي، بينما يذهب ما تبقى إلى البتروكيماويات، وفي عام 1974، ظهرت رواية في الولايات المتحدة بعنوان «ملف الغد!» وكانت أحداثها تجري في عام 2000، وعقدتها كانت أن تصنيع النفط وتحويله إلى منتجات صناعية سوف تكون له أهمية أكبر بكثير من النفط مصدراً لوقود آلة الاحتراق الداخلي. كل الشواهد تقول إن ذلك سوف يكون الأقرب إلى الحقيقة في المستقبل المنظور، صحيح أنه لم يتحقق مع مطلع الألفية الثالثة، وجاء متأخراً قليلاً، ولكن ذلك يحدث بالفعل الآن. ومن المرجح أن القاعدة «الذهبية» أو «Gold Standard» الممثلة في السيارات بالنسبة لأسعار النفط لن تستمر طويلاً وسوف تحل محلها منتجات أخرى.
الدول العربية المنتجة للنفط وخصوصاً المملكة العربية السعودية لا تزال لديها نسبة حاكمة في إنتاج النفط، سواء الخام أو المكرر أو المصنع، وفوق ذلك ما يعطيه من سيولة مالية بالدولار الأميركي. هذه السيولة واحدة من أهم المخرجات السياسية للمنتج النفطي، فهي تتدخل في السعر الرسمي للدولار، كما أنها أسهمت على سبيل المثال في تحقيق الاستقرار الاقتصادي في مصر بعد ثورة يونيو (حزيران) 2013 وهزيمة الإخوان المسلمين وأتباعهم من التنظيمات الإرهابية الأخرى في المنطقة. والمملكة لديها مزايا إضافية، فرغم أنها الدولة الثانية في الإنتاج النفطي، فإنها الدولة الأولى في القدرة على التحكم في العرض والطلب، حيث يوجد لديها هامش لرفع الإنتاج من 7 ملايين برميل تقريباً، وهو الإنتاج الحالي، إلى 12 مليون برميل، وهذا يعطي مساحة سياسية كبيرة، وتأثيراً أكبر في العلاقات الإقليمية والدولية. وإذا كان ما يهمنا حالياً هو تحقيق الاستقرار في منطقة عانت الكثير منذ مطلع هذا العقد من ثورات واضطرابات وحروب أهلية، فإن الشواهد الحالية تشير - كما ذكرنا سابقاً في هذا المقام - إلى تراجع شديد في أعداد القتلى في المنطقة. فإذا كانت السيارات هي القاعدة الذهبية لقياس حالة النفط في العالم، فإن قتلى حوادث السيارات يعدون إحدى وسائل قياس حالة الاستقرار في العالم، فقد بلغ هؤلاء أكثر من مليون وربع مليون قتيل، وهو ما يزيد على كل ضحايا الحروب والإرهاب والجريمة المنظمة في الدنيا كلها، أما في الشرق الأوسط، فإن عدد ضحايا الحروب تراجع تراجعاً كبيراً إلى أقل من ضحايا حوادث السيارات. النفط والمملكة والدول العربية الأخرى المنتجة للنفط لا تزال لديها أدوار كبيرة، ومن الضرورة أن نتعلم دروساً كبيرة من كل ما سبق.