زاهي حواس
عالم آثار مصري وخبير متخصص بها، له اكتشافات أثرية كثيرة. شغل منصب وزير دولة لشؤون الآثار. متحصل على دبلوم في علم المصريات من جامعة القاهرة. نال درجة الماجستير في علم المصريات والآثار السورية الفلسطينية عام 1983، والدكتوراه في علم المصريات عام 1987. يكتب عموداً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» حول الآثار في المنطقة.
TT

سوق عكاظ

دعاني الأمير سلطان بن سلمان، رئيس الهيئة العامة السعودية للسياحة والتراث الوطني، لحضور افتتاح سوق عكاظ، ولم أستطع تلبية الدعوة لوجودي في منتدى ثقافي مصري بإيطاليا، ولكن استطعت أن أحضر الأيام الأخيرة من المهرجان الذي يستمر 19 يوماً، ويعدّ حدثاً ثقافياً مهماً جداً يقدم للناس كل أنواع التراث الثقافي والفنون بين الماضي والحاضر.
وقد كانت رغبة الملك عبد الله بن عبد العزيز، رحمه الله، إحياء فكرة السوق القديمة، ولذلك استطاع الأمير خالد الفيصل أمير مكة المكرمة أن يخطو الخطوات الجادة نحو إحياء سوق عكاظ، التي يمتد تاريخها إلى نحو 13 قرناً، وتعدّ من أشهر أسواق الثقافة والفن في العالم العربي. بدأت أولى فعاليات هذه السوق في عام 2007. وقد يعتقد من لم يشاهد فعاليات هذه السوق أننا أمام مهرجان ثقافي عادي، ولكن ما يحدث من فعاليات يشير إلى أنه ملتقى مبدع يجمع أهل السعودية من كل مكان، لأن هذه السوق أشهر أسواق العرب منذ قديم الزمان، ويُعتَقَد أن السوق قد سُميت بهذا الاسم لأن العرب كانوا يتعاكظون فيها، أي يتفاخرون ويتناشدون الشعر فيما بينهم فيها.
وكان نشاط هذه السوق ينحصر في بيع البضائع المختلفة، وكان الشعراء من كل مكان يأتون لهذا المكان ويتبارون في إلقاء القصائد. وقد أخرجت هذه السوق كثيراً من الشعراء المبدعين الذين ذاع صيتهم في كل مكان، وما زلنا نلقي بعض أبيات شعر هؤلاء العظام. وقد بدأت هذه السوق في عهد النبوة واستمرت أيام الخلفاء الراشدين وزمن الدولة الأموية. وقد كانت المظاهر الثقافية والحضارية بانتقالها من الحجاز إلى دمشق وبغداد ومصر، تجذب الناس أكثر من فعاليات السوق، لذلك فقد بدأ الاهتمام يقل عن أيامها الأولى العظيمة.
وكانت للسوق أدوار أخرى فعالة. فقد كان لها دور اجتماعي وسياسي، لأن القبائل العربية كانت تجتمع وتُمثَّل داخل السوق ليس للتباري الشعري فقط، بل والدخول في مباحثات وإظهار القوة السياسية لكل قبيلة، ولذلك كانت السوق منبراً حراً يجمع كل العرب.
أما الفعاليات الأخرى، فمن بينها أن الفرسان العرب كانوا يتبارزون ويأتون بألعاب الفروسية من على ظهور الخيل والجمال. وقد أخرجت هذه السوق خطباء على أعلى مستوى، ترن كلماتهم في آذان الناس كالسحر، هذا بالإضافة إلى أن شيوخ القبائل كانوا ينتهزون فرصة السوق لكي يبرموا المعاهدات بينهم، بل ويتم حسم الخلافات بين العائلات المتنافسة. ولذلك كانت سوقاً للسلم والثقافة والفنون والشعر والفروسية. فقد كان العرب يصفون فكرة السوق بأنها فرصة التقاء حضاري؛ أي أن يشاهد الناس بعضهم بعضاً، وأن يشاهدوا المشاهير من الفرسان والشعراء.
وكان المسافر يتوقف لكي يرى الفن ويجتمع مع إخوانه، ولذلك تعدّ هذه السوق رائدة أسواق العرب، لأن هناك أحداثاً تاريخية عظيمة حدثت بها، بالإضافة إلى كثير من الأحداث التي جَمَّعَت وفَرَّقَت العرب في الوقت نفسه. ولكن أهم شيء أنهم كانوا يتفاخرون من خلال الثقافة والفن الذي جعل العرب سادة العالم القديم في ذلك الوقت.