سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

في الطريق إلى الـ«دورادو»

حقاً لم يكن المشهد معتاداً، رغم أن أخبار اللاجئين والهاربين من البؤس باتت من ضمن اليوميات المكرورة. إلا أن تجمع سبعة آلاف شخص من عدة بلدان لاتينية وسيرهم في قافلة واحدة، معتدّين بقوتهم وكثرتهم وقدرتهم على اجتياز الحدود الجنوبية لأميركا، رغم كل التهديدات، لهو من جديد الابتكارات العبقرية لفقراء، فقدوا كل أمل.
كانت ثمة محاولات للسير في قوافل في أميركا الوسطى كما في أوروبا. كنا نسمع عن عشرات يسيرون معاً لتحدي موانع الحدود وحراسها الأشاوس، ثم صاروا يتجمعون بالمئات، وها نحن نصل إلى آلاف الناس، ينظمون أنفسهم عبر وسائل التواصل وينطلقون، سيراً على الأقدام، يتعلقون بمؤخرات الشاحنات، بأبواب القطارات، على الدواب، لا يهم، ما يعنيهم هو الخلاص.
هذه المرة لم تكن لهجة الرئيس الأميركي دونالد ترمب متسامحة أيضاً، فلا شيء ينفع في ردّ من هم في هندوراس مهددين، فوق الجوع والعطش، بعنف العصابات وجنون متعاطي المخدرات. بلد وصلت فيه الجريمة إلى النسبة الأعلى في العالم على الإطلاق، ولا من يردع. فمنذ ما يقارب ثلاثين سنة وهم يتخبطون في الفوضى.
هدد الرئيس الأميركي بتخفيض المعونات للدول التي لم تتمكن من فرملة القافلة، مثل السلفادور وغواتيمالا وكذلك المكسيك. تحدث عن «اعتداء» على البلاد، عن إجراءات شاملة لرد «الهجوم» وعن إرسال «جنود» إلى الحدود، لوقف مرور الجحافل الزاحفة بالقوة.
ليست أميركا وحدها من تشعر بالخطر. أوروبا تنظر بعين الرعب إلى ما يحدث على الحدود الأميركية، إلى القدرة الهائلة لهؤلاء البائسين، على التنظيم والتخطيط. ثمة من يتساءل إن كان تحرك جماعي كهذا يمكنه أن يتآلف بمجرد تواصل عبر «واتساب»؟ كيف أمكن لـ160 شخصاً انطلقوا من «روزا دي كوباي» في هندوراس أن يجمعوا حولهم هذه الآلاف في أيام معدودات؟ من يوفر لكل هذه الأفواه الفاغرة الطعام والماء وملاجئ للنوم؟ الأسئلة مشروعة بالطبع؛ لكن الإجابة عنها لا تغير من واقع الحال كثيراً.
لقد انقسم العالم بحدة، إلى جزء فقير معدم، وآخر يسترخي في نعيم؛ لكن حتى هؤلاء بينهم من يعاني ويخشى الآتي. عدد الفقراء ليس في ازدياد تبعاً للأرقام، وإنما ينقص؛ لكن نصف سكان العالم لا يزالون في عوز شديد، وفي إدراك متنامٍ للظلم الذي يتعرضون له. وهؤلاء لن يتوقفوا عن تنظيم محاولات لـ«الهجوم» على الدول الغنية؛ بل ينتظر أن تكتسب التجمعات عزيمة وابتكاراً لاستراتيجيات جديدة لبلوغ غاياتها.
الأوروبيون يتفرجون على الجحافل اللاتينية تتوجه صوب أميركا، ويتساءلون عن وسائل الصدّ التي عليهم أن يتهيأوا لها. المهاجرون عندهم من الآن يتسببون في خلافات عميقة بين قادة الاتحاد الأوروبي، الذين يتقاذفون المسؤوليات. فإيطاليا وحدها استقبلت في السنوات الخمس الماضية 650 ألفاً من قوارب المهاجرين. واليمين المتطرف بنظرياته العنصرية لا يتوقف عن كسب الأصوات وتجييش المقترعين في أوروبا كلها. هناك من يشعر أنه يتعرض لحرب بالفعل. أحد قراء جريدة «لوموند» علق ببساطة: «سينتهي بنا الأمر إلى أن نطلق عليهم النار». ويجيبه خائف آخر بأن على أوروبا أن تستعد لتواجه ظاهرة هجوم جحافل اللاجئين التي «هي الأكبر في القرن الحادي والعشرين».
السبعة مليارات والنصف مليار إنسان الذين يسكنون الكوكب، سيصل عددهم إلى أكثر من تسعة مليارات في غضون ست سنوات فقط، إذا ما صحت تقديرات الأمم المتحدة. سياسة تحديد النسل في كثير من الدول المتعثرة تعاني فشلاً ذريعاً، والترغيب في الإنجاب في الدول الغنية لا يفلح كثيراً. الاختلال الديموغرافي بين الشمال والجنوب لا يسعف في جلب الفقراء؛ بل في فتح الأبواب للأكثر غنى وذكاء واقتداراً. هذه هي السياسات الجديدة التي ترسم مزيداً من الانقسام بين أغنياء الناس وفقرائهم.
الفقر ظاهرة قديمة، والحروب حصدت أرواحاً وأنهكت دولاً وقارات فيما سبق. المستجد هو أن المتألمين باتوا يرون النعيم على المقلب الآخر بأم العين، يتابعونه بالبث المباشر، يتعرفون بسهولة على المفاتيح ونقاط الضعف وطرق الاختراق. صار المعدم يتساءل: لماذا لا يستطيع الانتقال إلى تلك الجنة القريبة منه، مهما بعدت؟
لن تنفع كل نداءات المنظمات الإنسانية وتشجيعها على استقبال أناس يحملون بين أضلعهم قلوباً تخفق بالحماسة والرغبة في الكد والعمل، لن تجدي كل الشروحات التي تقدمها الهيئات الدولية عن حق الراغبين في الهجرة في حماية تليق بهم؛ لأن الأرض للجميع والإنسانية واحدة. فهذه العبارات التي تنشرها المنظمات على مواقعها صارت أشبه بشعارات تخيف الدول الغنية من إلزامها قانونياً بما لا تطيق، فتعمد إلى رفع الجدران، بعد أن يئست من فاعلية الأسلاك الشائكة.
لا نعرف كم من السبعة آلاف الذين ساروا في واحدة من أكبر قوافل المهاجرين ضخامة في عصرنا، سيصلون إلى الفردوس الأميركي المفقود، وكم منهم سيقضي أو يعود أدراجه. ما نعلمه أن هذه الحدود الأميركية مع المكسيك يحاول اجتيازها سنوياً 500 ألف شخص، ينجح أقل من نصفهم. هذه المرة الهجمة تنامت أضعافاً بلمح البصر، وجاءت لتنذر بأن الآتي لن يكون سهلاً، وعلى الأغنياء أن يتقبلوا اقتسام الثروات والمهارات وتقديم المساعدة للبائسين في أرضهم، قبل فوات الأوان. فالتحولات صارت مباغتة، وأسرع من قدرة العقل على الاستعداد لتداركها أو حتى إدراكها.