نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

نظام التسوية ونظام الثورة

منذ توقيع «اتفاقيات أوسلو» وانتخاب مجلس تشريعي، وتشكيل حكومة فلسطينية، وحتى يومنا هذا؛ تعيش الحالة الفلسطينية تحت حكم نظام مزدوج الهياكل والإطارات... هياكل وإطارات التسوية وعنوانها السلطة الوطنية، وهياكل وإطارات الثورة وعنوانها منظمة التحرير.
كان يمكن لهذا النظام المزدوج أن يثري الحياة السياسية الفلسطينية، وأن يوسع مجال المناورة والحركة وحتى الشرعية، لو أحسن استخدامه وتوظيف مزاياه، ولو أتقنت الطبقة السياسية الفلسطينية عملية تكامل بين مكونات النظام المزدوج، دون طغيان واحد على حساب الآخر.
وبقراءة موضوعية للحالة الفلسطينية وما آلت إليه، فإننا نلاحظ أن التكامل المنشود الذي لم يحدث؛ بل حدث عكسه تماماً أفرز تآكلاً أضعف مؤسسات «المزدوج»، وجعلها عبئاً على الوضع الفلسطيني ومجال استنزاف وإهدار للطاقات الوطنية، وللأرصدة التي راكمتها الثورة؛ أي في زمن أحادية النظام في إطار منظمة التحرير.
الواقع الراهن يقول بالوقائع الملموسة إن النظام المزدوج أفرز خلاصات كارثية، فعلى صعيد منظمة التحرير؛ انتقلت إليها عدوى الانقسام، ويتجسد ذلك في المقاطعات التي تفاقمت أولاً على صعيد المجلس الوطني، لتتطور وتتسع وتستفحل لتطال المجلس المركزي الذي يفترض أن يكون امتداداً إن لم نقل بديلاً للمجلس الوطني.
فإلى جانب خلوّ مؤسسات المنظمة أصلاً من ممثلين عن التيار الإسلامي؛ «حماس» و«الجهاد»، اللذين لا ينكر وجودهما وتأثيرهما في الشارع الفلسطيني، فهنالك استنكاف مستجد لفصيلين أساسيين هما «الجبهة الشعبية» و«الجبهة الديمقراطية»، وما يجرّانه وراءهما من مستقلين متعاطفين.
كانت القوة النافذة في منظمة التحرير ممثلة في «فتح» وحلفائها، قد تغاضت عن حجمهما الحقيقي في الشارع الفلسطيني لمصلحة تسويق الجبهتين كأعمدة لما سمي «النصاب السياسي»، الذي من دونه تبدو المنظمة ناقصة ومفتقرة لأهم مقوماتها الجبهوية، هكذا كانت تقول «فتح» وتبذل جهداً كبيراً لبقاء هاتين الجبهتين في صلب بنية النظام السياسي لمنظمة التحرير.
كذلك؛ فإن خلوّ المنظمة من التيار الإسلامي يفاقم تأثيره السلبي، من خلال وجود هذا التيار بقوة داخل مجتمع ومؤسسات السلطة الوطنية، وأصعب ما في هذا التيار أنه طارد للآخرين وغير مستعد للمشاركة ما دام يراوده حلم السيطرة على الحالة الفلسطينية إن لم يكن دفعة واحدة؛ فبالتدريج، وإن لم يكن بصورة شرعية فبصورة الأمر الواقع، وغزة هي البداية والضفة هي المآل.
إذن؛ نحن حيال وضع يستبد به انقسام مزدوج ومركب؛ انقسام في نظام المنظمة، يوازيه انقسام في نظام السلطة، والمحصلة - كما نرى - انقسام أفقي وعمودي في الوطن الفلسطيني، دون ظهور مؤشرات مقنعة على إمكانية إنهائه أو الحد من تداعياته. والمفارقة اللافتة أن نظام التسوية الذي انخرط فيه الجميع؛ «فتح» و«حماس»، يغطي عجزه وفشل رهاناته باستخدام أدبيات نظام الثورة، فلو أغمضت عينيك وأنت تستمع إلى خطاب الرئيس عباس في الأمم المتحدة، لما كان صعباً عليك تخيل أن الخطاب بلهجته ينتمي إلى زمن الثورة، وحين تستمع إلى خطاب «حماس» الغارقة حتى أذنيها في نهج التسوية تحت عنوان التهدئة والمقايضة برفع الحصار، فلا يصعب عليك رؤية الثوب الثوري القديم يغطي السلوك التسووي الجديد.
الصورة الأخيرة لحال الفلسطينيين في ظل استمرار العمل بالنظام المزدوج، مع أن شخوصه «واحد»، هو ما نراه الآن ويمكن تلخيصه بجملة مختصرة: «تطور الانقسام ليبلغ حد الانفصال»، حتى إن صديقي أبو مرزوق تحدث ذات يوم عن اتحاد كونفدرالي أو فيدرالي بين غزة والضفة، والأخطر من ذلك كله إن إسرائيل تتكرس كل يوم بصفتها قوة تحكم في المداخل والمخارج دون أن تبذل في ذلك جهداً كبيراً؛ فتكفيها تداعيات الحالة كما لو أنها تتم بصورة تلقائية.