الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

سوريا وإمكانات الخروج من القبضة الإيرانية

مع تقدم البحث عن مخارج سياسية للأزمة السورية، ومع تصدع جبهات المعارضة واستعادة النظام سيطرته على أكثر المدن والمناطق، يبقى السؤال: أيُّ سوريا ستخرج من هذا الصراع الطويل؟ إنه السؤال الذي يشغل صانعي السياسات الإقليمية، كما يشغل المسؤولين الدوليين الذين تعتبر بلدانهم معنية بقضايا المنطقة وبمستقبل سوريا.
بكلام آخر: ماذا سيكون شكل النظام الذي سيجلس إلى طاولات القمم والمؤتمرات، العربية أو الدولية؟ هل سيكون نظاماً «روسياً» أم «إيرانياً»، تبعاً لولائه لهذه الدولة أو تلك؟ وهل يستطيع نظام بهوية إيرانية أن يستعيد علاقات طبيعية مع دول الجوار، في ظل التدهور القائم في علاقات إيران مع معظم جيرانها العرب، والخليجيين منهم على وجه خاص؟ وهل يستطيع نظام «إيراني» في سوريا أن يقنع أحداً من القوى الغربية القادرة بالمساهمة في عملية إعادة الأعمار، التي تقدر أرقامها بمبالغ فلكية تقارب 500 مليار دولار؟ وهنا نصل إلى السؤال الأكثر أهمية وإلحاحاً: مَن سيكون قادراً بالتالي على إخراج هذا النظام من القبضة الإيرانية، كما هو حاله اليوم؟
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يُنسب إليه «الفضل» الأكبر في إبقاء نظام بشار الأسد في الحكم، يقول: «مسألة خروج إيران من سوريا ليست مشكلة روسيا. وعلى دمشق وطهران الاتفاق حول هذه المسألة». (خلال لقاء منتدى فالداي الأخير). وكان مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون، قد نقل أيضاً عن لسان بوتين كلاماً مماثلاً. قال بولتون في مؤتمر صحافي خلال زيارة لإسرائيل (في 22 أغسطس «آب» الماضي): «أبلغني الرئيس بوتين بأن المصالح الإيرانية في سوريا لا تتفق مع مصالح روسيا، وهو سيكون راضياً إذا عادت القوات الإيرانية في سوريا إلى بلادها». وكلام بوتين هو بالطبع رسالة موجهة إلى من يريدون مقايضة الوجود الإيراني في سوريا.
صراعات النفوذ على الأرض السورية تعني أمراً واحداً: أن سوريا التي كانت موجودة عام 2011 لم تعد قائمة. والمقصود هنا هو النظام السياسي الذي سينهض بعد الحرب. فحتى لو بقي بشار الأسد رئيساً لسوريا، فهو لن يكون قادراً على حكمها كما فعل في السنوات العشر التي تولى فيها السلطة خلفاً لوالده. فهو لم ينهض من هذه الحرب ولم يستعد السيطرة على معظم المدن، التي كان قد خسر أكثرها، نتيجة الدور العسكري للقوى الذاتية السورية. والقوتان اللتان ساعدتاه على ذلك: الروسية والإيرانية، تتبجحان علناً بأن تدخلهما هو الذي أنقذ النظام. الإيرانيون منذ الأشهر الأولى لبداية الثورة. والروس منذ سبتمبر (أيلول) 2015 بعد مناشدات من الرئيس السوري الذي وجد أن نظامه يشرف على الانهيار بعد أن عجزت قوات إيران والميليشيات التي ترعاها، وخصوصاً «حزب الله»، عن إنقاذه.
لم يكن الدور الروسي في سوريا خارج السياق الاستراتيجي لتوجّه حكم آل الأسد. فسوريا كانت في ظل حافظ الأسد وخلال صراع القوى الكبرى في زمن الحرب الباردة محسوبة على المعسكر الاشتراكي. وكان تدريب ضباط وعناصر الجيش السوري يتم في المعاهد العسكرية الروسية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أكثر أسلحته التي جاء معظمها من مخازن الاتحاد السوفياتي. لذلك وجد الرئيس فلاديمير بوتين أنها فرصة سانحة لاستعادة موقع نفوذ مهم على شاطئ المتوسط، خصوصاً أن لديه قاعدتين جوية وبحرية في حميميم وطرطوس، تؤمّنان له وجوداً ثابتاً. غير أن بوتين برر تدخله بأن الهدف منه هو المحافظة على وحدة الأراضي السورية واستعادة الأمن والاستقرار، وكذلك منع تغيير النظام بالقوة من قبل الولايات المتحدة. أسباب ثلاثة وجدت صدى طيباً لدى أركان النظام السوري وكذلك لدى حلفائه الإيرانيين الذين كان كل همهم المحافظة على مصالحهم في سوريا من خلال المحافظة على بشار الأسد، بأي ثمن، ولو اقتضى الأمر تقاسم الكعكة السورية مع فلاديمير بوتين.
الدور الروسي وجد قبولاً لدى كثيرين من السوريين من الذين كان تزايد النفوذ الإيراني في بلدهم يشكل بالنسبة إليهم مصدر قلق على هوية سوريا وعلى مصيرها وتركيبتها الديموغرافية. فالمعالم الإيرانية التي أخذت تغير طابع المدن السورية، ومنها دمشق، كانت قد أخذت تتسع منذ تسلم بشار الأسد الحكم، وزاد الأمر على صورة «تشيع» متزايد مع دخول «الحرس الثوري» وسائر الميليشيات إلى قلب المعارك وفي معظم الجبهات، على حساب دور الجيش السوري الذي تفكك وانهارت معظم فرقه وتشكيلاته. وحاولت موسكو الاستفادة من هذه الحساسيات الطائفية، فصارت تجلب عناصر للشرطة الروسية من مناطق مثل الشيشان ذات الأكثرية السُّنية للإشراف على الأمن في مدن مثل حماة وحلب، إذ شعرت أن هؤلاء يجدون استحساناً من جانب الأهالي أكثر من عناصر الميليشيات الإيرانية. وعندما حاصرت هذه الميليشيات مدينة حلب لمنع أبنائها من الانسحاب قامت الطائرات الروسية بقصف بلدتي كفريا والفوعة ذات الأكثرية الشيعية لإرغام الإيرانيين على الموافقة على تنفيذ الاتفاق المتعلق بحلب. أما في محافظة إدلب فقد كان الدور الروسي حاسماً في منع النظام (حتى الآن) من ارتكاب مجزرة كبرى ضد سكان المحافظة وعشرات الآلاف الذين لجأوا إليها بعد طردهم من مناطقهم في مختلف أنحاء سوريا. وكان الاتفاق الروسي - التركي الذي قضى بإقامة منطقة منزوعة السلاح تمتد من ريف اللاذقية الشمالي الغربي إلى محافظتي إدلب وحماة وريف حلب الغربي. وساهم الدور الروسي كذلك في إبعاد عناصر إيران وميليشياتها عن الجنوب السوري، وهو ما أفسح المجال أمام نظام الأسد لاستعادة السيطرة على المنطقة الحدودية في القنيطرة ودرعا بغطاء روسي وموافقة أميركية وإسرائيلية.
يمكن وصف علاقة روسيا وإيران على المسرح السوري بأنها علاقة تكامل وتناقض في الوقت ذاته. هناك التقاء بين البلدين على المحافظة على النظام الحالي وعلى رفض التدخل الأميركي لتغييره أو لقيام عملية سياسية إصلاحية تحت مظلة واشنطن. ويستفيد البلدان طبعاً من غطاء يوفره النظام يقوم على قاعدة أن التدخل العسكري للبلدين في سوريا هو تدخل «شرعي» لأنه حصل بطلب من النظام، بينما التدخلات الأخرى تعد من وجهة نظر النظام بمثابة «احتلالات».
غير أن الخلاف يظهر عند النظر إلى الأهداف الاستراتيجية للتدخل. إيران تعتبر ما تسميه «انتصار» النظام تقدماً لمحورها «الممانع» في الصراع الإقليمي. بالتالي هي تعتبر أنها كسبت موقع قدم مهماً يوفر لها نفوذاً ليس في سوريا وحدها، بل وصولاً إلى لبنان، من خلال خط الإمداد السياسي والعسكري إلى «حزب الله». ومشروع «الحرس الثوري» في سوريا ليس فقط الهيمنة على النظام بل الاندماج الكامل في مؤسساته، بحيث تصبح جزءاً من المشروع الإيراني.
أما موسكو فتنظر إلى نفوذها في دمشق على أنه ورقة مهمة للتفاوض وموقع متقدم لها على شاطئ المتوسط. وفيما يهمها بالطبع ألا يتحول النظام السوري إلى موقع معادٍ لمصالحها فإنها لا تمانع في رعاية عملية إصلاح سياسي، كما يحصل من خلال مناقشة تشكيل اللجنة الدستورية. وقد دعا الرئيس فلاديمير بوتين في مناسبات مختلفة إلى ضرورة تسريع العمل لتشكيل هذه اللجنة والانتقال إلى التسوية السياسية.
خطوط الخلاف على المصالح الروسية والإيرانية في سوريا تدركها موسكو جيداً. موسكو هي التي أجبرت إيران وميليشياتها على الانسحاب من الجنوب السوري تنفيذاً لتفاهم روسي - إسرائيلي. وهي التي أقنعت إيران بالقبول بصيغة التفاهم الروسي – التركي، والضغط على النظام السوري لعدم التدخل في إدلب. وموسكو تعتبر نفوذها في سوريا ورقة مهمة في تفاوضها مع الأميركيين حول مسألة العقوبات وتحسين العلاقات.
ورقة موضوعة على الطاولة لمن يشاء التفاوض حول تحجيم الوجود الإيراني في سوريا. فموسكو هي أكثر الأطراف قدرة على ممارسة دور في هذا الاتجاه إذا حصلت على الثمن المناسب.