سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

حول مشروع تحدي القراءة العربي

كلما قرأت شيئاً عن الموسم الثالث لمشروع تحدي القراءة العربي، الذي كرّم أبطاله في دبي هذا الأسبوع، بحماس واضح من صاحبه الشيخ محمد بن راشد، ذكرتُ على الفور مشروعاً شبيهاً اسمه مشروع «القراءة للجميع»، وقد كانت السيدة سوزان مبارك، حرم الرئيس الأسبق حسني مبارك، هي صاحبته، وكانت هي التي تقف وراءه بكل قوة، وكانت تدعمه، وتدفعه، وتسانده، وقت أن كان الفنان فاروق حسني على رأس وزارة الثقافة في القاهرة، وكان ذلك إلى ما قبل 25 يناير (كانون الثاني) 2011، وبعدها اختفى «القراءة للجميع» واختفت صاحبته!
لقد استمر المشروع سنوات، وليس في مصر بيت إلا وفيه كتاب من إصداراته، وليس فيها محب للقراءة إلا واستطاع تكوين مكتبة كاملة من مؤلفات كانت تتوالى في الصدور كتاباً وراء كتاب، على مدى صيف العام كله، وليس فيها شاب في جامعة وقتها أو طالب في مدرسة ولا حتى موظف في مصلحة حكومية إلا ووقع بين الإصدارات على كتاب يروي عطشه إلى المطالعة!
وقد كانت الإصدارات تتنوع تنوع المعرفة على إطلاقها، فالذين يفضلون كتب التراث كانوا يجدون عيونه منشورة أمامهم في الأسواق، والذي يميلون إلى الإبداع شعراً أو نثراً كانوا لا يواجهون أي صعوبة في الحصول على ما يرغبون فيه، سواء كان الإبداع قديماً أو حديثاً، والذين يبحثون عن كتب العلم المجرد كانوا بسهولة يرصدونها في قائمة المنشورات على أرفف المكتبات، وهكذا، وهكذا، إلى سائر فنون التأليف والكتابة، وكان ذلك كله متاحاً بجنيهات معدودة على أصابع اليد الواحدة، وربما أقل منها في الكثير من الحالات!
وفي الحالتين: حالة القراءة للجميع، وحالة تحدي القراءة العربي... كان الهدف واحداً: أن يكون الكتاب في كل يد. وفي الحالتين كان الغرض هو نفسه: أن يصير لدى المواطن وعي حقيقي بضرورة أن يكون الكتاب مادة دائمة بين يديه، ثم وعي بمعنى أن تكون الكلمة المكتوبة غذاء يعيش عليه كالرغيف سواءً بسواء! وكان ذلك دون اتفاق مُسبق بين المشروعين!
وكلما ذكرت مشروع تحدي القراءة العربي، تذكرت على الفور أيضاً، الفتاة الجزائرية فاطمة غولام، التي كانت قد شاركت في الموسم الثاني من المشروع، قبل عام تقريباً من الآن، وكانت قد وصلت إلى مراحل متقدمة منه، وكانت وهي في طريقها إلى تصفيات مرحلته الأخيرة في بلادها، قد قطعت 18 ساعة متواصلة بالسيارة من منطقة نائية، حيث كانت تعيش على الأطراف في الجزائر، إلى العاصمة حيث كانت التصفيات النهائية للمشاركين تجري، ولكنّ حادث طريق طارئ حرمها ليس فقط من مشاركة عاشت تتمناها، وتتهيأ لها، وتسعى إليها، وإنما حرمها من الدنيا ذاتها!
وعندما بلغ نبأ مصرعها الشيخ محمد بن راشد، فإن حزنه عليها كان على قدر الطموح الذي راحت تطارده في اتجاه تصفيات المشروع في عاصمة البلاد، ولم يشأ حاكم دبي أن يكون الحزن من جانبه على البنت حزناً نظرياً، فأمر بتجهيز عشر مكتبات باسمها في الجزائر، وقال ودموعه عليها تغالبه: كما أن للكلمة قراءً وأبطالاً، فإن لها في اللحظة نفسها شهداء، وفاطمة تقف في طليعة هؤلاء الشهداء!
ومن الملامح العامة لمشروع تحدي القراءة العربي، نستطيع أن نرى بأعيننا أنه يتوسع أفقياً ورأسياً، كلما تقدم به العمر عاماً جديداً، وأن دورته الأولى خرجت إلى النور قوية، وأن الثانية أخذت من سابقتها وأضافت إلى كيانها هي، وأن الثالثة جمعت بين شباب الدورة الأولى ورصيد التجربة في الثانية، فكانت دورة ثالثة تتجدد في المضمون، ومعه كانت تتطور في شكلها، لأنها تعرف جيداً أن الشكل جزء لا ينفصل عن المضمون!
ففي الموسم الثاني كان المشاركون سبعة ملايين من الدول العربية كافة، وكان التكريم في انتظار أبطال القراءة الذين وصلوا إلى التصفيات النهائية، ولكنّ الموسم الحالي استقبل عشرة ملايين وخمسمائة ألف مشارك من 44 دولة، واتسع نطاق المشروع ليتجاوز حدود عواصم العرب إلى آفاق غيرها من العواصم في العالم، وهو موسم شهد كذلك تكريم المدرسة المميزة والمشرف المميز... فكأنه أراد أن يقول: إن القراءة عملية متكاملة، وإن لها عناصر متنوعة، وإن المدرسة ومعها المُشرف من بين هذه العناصر!
وحين يصل العدد المشارك إلى هذا الرقم، على مستوى هذا العدد من الدول، ثم تزيد المشاركات في سنة واحدة بمقدار الربع عن السنة السابقة، فالمعنى أن الدائرة تتسع عاماً بعد عام، والمعنى أن المشروع يتقدم ويقطع خطوات واثقة، والمعنى أن القراءة لا تزال لها جمهورها الذي يبحث عنها، ويجد راحته فيها، ويسلك كل سبيل يأخذه إليها، ولا يسمح لأدوات المعرفة الحديثة في العصر بأن تختطف منه الكتاب، ولا بأن تزيحه من بين يديه لتجلس في مكانه... ثم المعنى على حد تعبير الوزير محمد القرقاوي، أمين عام اللجنة العليا للمشروع، أن رهان الشيخ بن راشد على الاستثمار المعرفي في الشباب العربي رهان في موضعه!
إن للمشروع الكثير من الفضائل، غير أن الفضل الأول هو إثبات أن الرغبة في القراءة ليست فقط موجودة بيننا ولكنها رغبة مستقرة، وأنها في حاجة إلى يد ترعاها وتفتح السبيل أمامها، لا أكثر، وأن كل هذا الصخب الدائر في وسائل الاتصال المعاصرة، ليس معناه أن الكتاب صار غريباً في بلاده، أو منفياً خارجها، وإنما معناه أن جمهور الكتاب يعرف مكانه، ويتلمس الخطوات من أجل الوصول إليه، وأنه متى وجده متاحاً في القاهرة، أو في دبي، أو في أي مدينة عربية فإنه يسعى إليه!
إن الواحد منا يحزن كثيراً في كل مرة يطالع فيها لمن يردد بيننا، أن خصومنا نحن العرب يقولون عنا إننا لا نقرأ، وإننا إذا قرأنا لا نستوعب ما نقرأه، وإن هذا هو سبب الهزيمة التي تلحق بنا في مواقف كثيرة... يحزن الواحد منا وهو يرى كثيرين بيننا يؤمنون بهذا الكلام المنحرف، وأن بعضنا يردده نقلاً عن أعداء لنا، دون أن يتبين الذين يؤمنون والذين يرددون، ما إذا كان مثل هذا الكلام يمثل حقيقة، أم أنه يقال على سبيل الدعايات المضادة السوداء، التي يجب ألا نستقبلها، وإذا استقبلناها فعلينا أن نُثبت لأنفسنا قبل غيرنا، خطأها وخطأ ترديدها، وأن نتصرف في حياتنا بما يثبت عكسها على طول الخط، فالغرض منها أن تنال من عزيمتنا، وهو ما لا يجب السماح به، ولا السير وراءه في أي أرض!
وربما يكون هذا هو الفضل الثاني للمشروع... فضل الإشارة إلى أن مطالعة الكلمة المكتوبة، لا تزال تمثل عشقاً لدى العدد الأكبر بيننا، ولا تزال تمثل متعة لدى العارفين بقيمتها، ولا تزال تمثل وجهة معلومة، ففي البدء كانت الكلمة، ولا كلمة بغير كتاب!