أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

معالم احتضار فكر الجماعات الإرهابية

ليس من قبيل المبالغة أو التسرع القول إن إحدى النتائج اللافتة لأزمات المنطقة في العقد الأخير، هي تدشين مسار انحطاط الجماعات الإرهابية الإسلاموية وبدء انحسار المكانة التي تبوأتها لسنوات خلت، وجعلتها الطرف الأقدر على التعبئة شعبياً والأخطر عالمياً، حيث تضافرت مجموعة عوامل موضوعية وذاتية حددت سقف تطور هذه الظاهرة المتطرفة ووضعتها في طريق مسدودة، بعد أن وصلت ذروتها الذهبية بإقامة ما «داعش» دولته المزعومة.
أولاً، الهزيمة العسكرية التي مُني بها تنظيم داعش وانهيار دولته وتشتت مكوناته، ثم الجهود المتواترة لمحاصرة وتطويع «جبهة النصرة» في مختلف معاقل سيطرتها وآخرها الاتفاق بين تركيا وروسيا على إنهاء وجودها اللوجيستي والعسكري في مدينة إدلب، وإذا أضفنا النجاح في تصفية آلاف الكوادر الجهادية التي تشكلت على مر السنين وامتلكت خبرات عسكرية وتعبوية وأمنية، ثم تنامي الخلافات المعلنة بين صفوفها تبعاً لتنوع اجتهادات القائمين عليها، وأوضحها الانقسام بين تنظيم داعش و«جبهة النصرة» وما نجم عنه من تخوين وتكفير ومعارك طاحنة في غير مكان، وأضفنا أيضاً تأثير ما سبق في تعرية البنى التنظيمية للجماعات الجهادية وطرق نشاطاتها؛ ما سهل اختراقها وأفقدها إحدى نقاط قوتها بصفتها جماعات سرية وعصية أمنياً، يمكن تقدير مدى تراجع الثقة بالفكر الجهادي عموماً وتهتك منظومته في ظل ما يصح اعتباره قطبة مخفية في السياسات العالمية تجلت بسلبية مقيتة في التعاطي مع المتغيرات العربية وبخاصة في سوريا، بغرض استثمارها لإيقاظ الخلايا الجهادية النائمة في الغرب وجذبها إلى ساحة الصراع لتسهيل كشفها وتصفيتها.
ثانياً، خيبة الأمل الكبيرة في أن تكون هذه الظاهرة المتطرفة مثلاً يحتذى أو نموذجاً مرغوباً؛ إذ جاءت حصيلة حكم الجماعات الإسلاموية المتطرفة، حيثما فرضوا «إماراتهم»، محبطة ومخيبة للآمال، اللهم إلا في إظهار صورة سلبية عن الإسلام، لا كدين يسر وتسامح، بل كعامل قهر وإكراه أحال الإنسان إلى مجرد أداة عمياء مسخّرة لخدمة الطقوس والشعائر، وطبعاً لم يمض وقت طويل حتى خسر الجهاديون ما جنوه من تعاطف في غالبية مناطق سيطرتهم بسبب غياب برنامج تنموي قادر على تلبية حاجات المجتمع وبسبب الفظائع التي رافقت تطبيق رؤيتهم المتطرفة للإسلام، زاد الطين بلة انكشاف حالات بغيضة من الفساد وتنافس القادة على المغانم الدنيوية من مال وجاه ونساء؛ ما أثار حنق الناس وبعث في نفوسهم حافزاً أخلاقياً لرفض الفكر الجهادي وللانفكاك عنه سياسياً ومسلكياً.
ثالثاً، من معالم انحطاط الفكر الجهادي، فشل سلطة الإسلام السياسي في البلدان التي شهدت موجة الاضطرابات الأخيرة في معالجة تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتوفير شروط حياة تليق بالإنسان وتخلق الفرص الضرورية لضمان حاجاته المادية والروحية، وبخاصة أن الإسلام السياسي، من دون أن نستثني إيران، شكل حاضنة موضوعية ووعاءً عقائدياً للجماعات المتشددة ولنقل المناخ الخصب، آيديولوجياً وتنظيماً، لنموها وترعرعها، فالإسلام السياسي ينهل من منهل واحد ويسعى إلى تطبيق رؤيته للشريعة الإسلامية وإن اختلفت في الأشكال والأساليب في دول معينة، عدا عن أن السلمي منه لم يتوانَ عن استخدام أكثر الوسائل استئثاراً ووحشية لحماية ما يعتبره حقه، والأمثلة كثيرة تبدأ من غزة، وتصل إلى اليمن وليبيا قبل أن نقف عند سلوك «الإخوان المسلمين» في مصر وتنكرهم للشعارات الديمقراطية، واستئثارهم الفظ بالحكم ورعونتهم في أسلمة الدولة والمجتمع، أو عند تملص غالبية الإسلامويين في المعارضة السورية من شعار الدولة المدنية، عندما اشتد عودهم، ومسارعتهم لدعم الهيئات الشرعية والشعارات الإسلاموية على حساب الشعارات الوطنية.
رابعاً، تهتك الغطاء الوطني الذي كانت تتوسله بعض القوى الجهادية لتوسيع شعبيتها، ففيما مضى أكرهت هذه القوى على وضع المهام الوطنية في رأس أولوياتها، وبحثت عن شرعيتها النضالية والجماهيرية وعن أسباب قوتها ودوافع استمرارها، ليس فقط من وجهها الإسلاموي، وإنما أيضاً من إشهار صورتها كمقاومة لإسرائيل والاحتلال، وكلنا يتذكر كيف سوغت الأعمال الإرهابية ضد المدنيين في أوروبا وأميركا بذريعة الحرب على السياسة الغربية، أما اليوم فقد تعرى سلوك الجماعات الجهادية، وفضح زيف ادعاءاتها الوطنية لتنكشف عن محتوى طائفي بغيض، تجلى الأمر في أوضح صوره باستجرار متطرفي مختلف الجنسيات كي يعيثوا قتلاً وتخريباً في مجتمعاتنا، وبما قام به «حزب الله» لتسويغ دوره المذهبي في الصراع السوري.
والحال، ينبغي التأكيد أن القول بانحسار موجة الفكر الجهادي الإسلاموي وبدء انحطاطه واحتضاره، لا يعني أبداً أن الأمر سيتم بين يوم وليلة، بل هو مجرد عتبة لصيرورة تاريخية قد تطول أو تقصر، آخذين في الاعتبار أن الجهاديين لا يزالون يمتلكون قوى إرهابية قادرة على الأذى والتخريب، وعلى تسعير الصراع المذهبي في مجتمعات الربيع العربي المنكوبة بهم، وأن ثمة أسباباً لا تزال توفر لهم مناخاً راعياً، منها استبداد الأنظمة، ومنها استمرار تردي حياة المسلمين وتعرضهم للتمييز والظلم والحرمان كما لنزعات الاستفزاز والاستخفاف الطائفيين، وإذا أضفنا قصور المشروع النهضوي التنويري بعد هزيمة البرنامجين القومي والشيوعي، وضعف الجهود لبناء وتعميم خطاب ديني يعيد الاعتبار لجوهر الإسلام الحقيقي، أخلاقياً وإنسانياً، نقف عند أهم العوامل التي لا تزال قائمة وتحض الأغلبية المتضررة على الرفض والتمرد وتدفع البعض نحو الملاذ السياسي الديني، فكيف الحال مع استمرار سلبية الجماعة الدولية في مساندة الشعوب المضطهدة لنيل حقوقها، وفي حماية حيوات البشر من فتك وتنكيل سلطويين لم يقفا عند حدود! وكيف الحال مع وجود أنظمة، مثل نظامي سوريا وإيران، تعتاش على تسعير الصراعات المذهبية ودأبت على استخدام الجهاديين ورقةً في إدارة أزماتها ولتمرير مصالحها ومراميها! وكيف الحال مع العجز المزمن لقوى التغيير الوطنية عن كسب ثقة الناس والتقاط زمام المبادرة لإبقاء جذوة الخيار الديمقراطي متقدة!