نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

عباس... ومناورات كسب الوقت

خطابان لعباس جسّدا أعلى منسوب إحباط باح الرجل به منذ رعايته لمباحثات أوسلو قبل ربع قرن وحتى يومنا هذا.
الأول الذي تضمن آية كريمة تستخدم عادة للتعبير عن مُرّ الشكوى: «حسبنا الله ونعم الوكيل». كان ذلك أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.
والثاني الذي ألقاه بالأمس القريب أمام المجلس المركزي، والذي خلص فيه إلى أن الشعب الفلسطيني يمر بأخطر مرحلة في تاريخه، ومطلوب منه اتخاذ قرارات خطيرة لمواجهتها.
في الخطابين لم يقتصر سخط عباس على الواقع الفلسطيني، حيث شكا مُرّ الشكوى من الانقسام والمقاطعة اللافتة والمؤثرة من قبل سدنة النصاب السياسي «الشعبية والديمقراطية»، ومن جروه معهما من المستقلين والتشكيلات الأخرى، بل امتد السخط ليطال الوضع العربي، حين أعلن أنهم يواجهون الأخطار الكبيرة بمفردهم.
وشمل السخط كذلك وكان ذلك ظاهراً بقوة في خطاب الأمم المتحدة، حين لام المجتمع الدولي على عدم تطبيقه لقراراته، والأخطر من ذلك كله وهو مدعاة للسخط المرير، السياسة الأميركية التي تمهد لصفقة القرن بقرارات تلحق أذى بالغاً بالمقومات الأساسية للقضية الفلسطينية، وتسد الآفاق المعقولة أمام التطلعات الفلسطينية المتواضعة والمشروعة.
أما الإسرائيليون الذين هم أصل البلاء والطرف المباشر في معاناة الفلسطينيين وحرمانهم من أبسط حقوقهم، فقد وجهوا لعباس رسائل استفزازية تجسد قوله القديم بأنه يقود سلطة بلا سلطة، فبينما كان يتأهب لإلقاء خطابه أمام المجلس المركزي، داهم الإسرائيليون أماكن عديدة في الضفة واعتقلوا عشرات الأشخاص، وأعلنوا عن الموافقة على بناء 21 ألف وحدة سكنية في مستوطنة معاليه أدوميم، لتلامس بيوتها ضفاف البحر الميت، بعد أن تجرف في طريقها مساكن فلسطينيين فقراء يعيشون في منطقة الخان الأحمر.
كذلك فإن عباس الذي في فمه ماء، جرّاء أن القضية لم تتزحزح وإسرائيل تسعى للتطبيع قبل إنجاز الحل، كل ذلك وكثير غيره ربما يكون أفدح وأعمق أثراً لا يراه عباس فقط، بل يلمس أذاه على جلده وجلد شعبه وقضيته.
وفي وضع شديد الصعوبة والتعقيد، وضيق المسارب والآفاق، ماذا يمكن لعباس أن يفعل؟ ويبدو لي أن الرجل اختار لنفسه خطين مختلفين في الظاهر ولكنهما يخدمان الهدف.
الخط الأول هو توجيه خطابات متشددة يمكن وصفها بالشعبوية، وهذا يتماهى مع الإحباط الشعبي العام من إمكانيات تحقيق السلام كما يرغب الفلسطينيون، والثاني تجنيب القرارات ما يثير ردود أفعال مدمرة تخرج الفلسطينيين من المعادلات الإقليمية والدولية، فالخطاب الناري الساخط والمتذمر يقول للعالم: «الحقونا وإلا فقدتمونا»، أما القرارات الحذرة والهادئة والعاقلة، فتقول للنافذين في أمر القرارات الدولية والإقليمية، إننا ما زلنا على حالنا القديم، متمسكين بالسلام، وجاهزين للتعاطي مع صيغ معقولة، نتوقع أن تتقدموا بها إما بتعديل صفقة القرن وإما بمبادرات موازية.
لهذا فليس مستغرباً القول إن أفضل القرارات على صعيد المجلس المركزي هي التي لم تتخذ، فما زال لمحمود عباس حاجة لبعض الوقت.
حين يُقرأ الواقع الفلسطيني والإسرائيلي والإقليمي والدولي بصورة موضوعية لا شعارية ولا رغائبية، ينبغي ألا يبقى مجال لقرارات انفعالية ينتظرها أصحاب الأجندات التي أسقطت من أولوياتها التقيد بما يريده الفلسطينيون. وأخال الرئيس عباس، الذي لا يصدر عن المجلس المركزي ولو كلمة واحدة دون موافقته، قد لجم الجموح الانفعالي والشعاري لمصلحة الحاجة إلى وقت قد يكون قليلاً إلا أنه ضروري لاستقبال العروض.