سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

إدوارد والانتفاض للكرامة

هذه السنة كان يفترض أن نحتفي بمرور 40 سنة على صدور أهم وأشهر كتاب حديث سُطر للدفاع عن كرامة العرب والشعوب التي قهرها الاستعمار وشوه صورتها، واستغل خيراتها من الهند إلى أميركا اللاتينية. فلم يحصد أي مؤلّف، ما عرفه «الاستشراق» من شهرة وترجمة ونقاش وتأثير على الدول الاستعمارية ودوائر الدراسات الاستشراقية في الغرب، كما هذا الكتاب.
وإذا كان ثمة من هدد سعيد وعائلته معه، في حياته وحاول إسكاته، بسبب كتاباته وآرائه، فهؤلاء هم أنفسهم يعنيهم طمسه إلى اليوم، مع أن الرجل كان يقول صراحة إنه لا شرقي ولا غربي، إنما أكاديمي متخصص في الأدب المقارن، يقوم بعمله البحثي، كما تعلمه في أميركا. هو يعترف أيضا أن المحرك الأول لكتابه الشهير، كان اكتشافه أن ما يقرأه عن العرب في الأدب الغربي، ويراه في اللوحات الفيكتورية لا يشبه في شيء الحياة التي عرفها في فلسطين ومصر ولبنان وسوريا. وكل ما أراد قوله للغرب: اعرفونا جيداً، ولا تسبغوا علينا أخيلتكم التي تظلمنا، ولا تنصفكم.
ولمزيد من التعمق جاء إلى بيروت مطلع السبعينات، وأخذ يتعلم العربية يومياً على يد القدير أنيس فريحة، حتى تمكن من قراءة أمهات الكتب، ليتأكد أكثر أن سوء الفهم عميق بالقدر الذي يرى.
هو دارس رواية في الأصل، و«الاستشراق» ليس نظريات سياسية خنفشارية، بل قراءات في نصوص أدبية غربية، تفضح نفسها وخفاياها حين توضع تحت مجهر التشريح. وكل ما فعله، وهو الأكاديمي الفذ أنه التقط على لسان الشخصيات وفي طيات النصوص ما لا يحب المستعمر كشفه. ولم يكن كتابه الذي جاء بعد أكثر من تسع سنوات «الثقافة والإمبريالية» سوى محاولة استكمال للأول، وفهم لماذا قبل أكثر من 80 في المائة من سكان الأرض الرضوخ لهذا الاستعمار، ولم يقاومه بالشراسة التي يستحقها؟ ما دوافع الخنوع الجماعي أمام دول شكلت مؤسسات متكاملة وبنت نظريات، دارت في فلكها أعمال أدبية وفكرية وفنية تضافرت كلها لإخضاع شعوب واستثمار خيراتها.
ميزتان رئيسيتان يمكن قراءة كتابات إدوارد سعيد على ضوئهما هما: «التمرد» و«الاستقلالية». فقد طرد من كلية كان يدرس فيها في الإسكندرية بعد خروجه من فلسطين وهو في السادسة عشرة، لأنه كان «شقياً»، وارتأى والداه إرساله إلى أميركا عام 1951 ووضعاه في مدرسة داخلية، حيث عانى الوحدة بعيداً عنهما. هناك ساءه أن أحداً لم يسمع بفلسطين والظلم الواقع على أهلها، وأنه حين يرتدي اللباس العربي في إحدى الحفلات المدرسية فعليه أن يكون حافي القدمين مستسلماً رافع اليدين. بعد حرب 67 بدا أكثر غضباً، وصورة العربي في أميركا توازي الهزيمة والانكسار والخنوع، ولم يتنفس الصعداء إلا بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 73، على وقع أخبار الانتصارات التي كانت الأولى التي عرفها للعرب في حياته.
وكي ترى أنه حتى العباقرة بحاجة إلى شيء من الانتشاء ليبدعوا، فقد كانت تلك الحرب دافعه ليضع «الاستشراق»، مدللاً على أن الأفكار المسبقة هي التي تغذي ليس فقط المخيلة الغربية، وإنما تشوه وتتسبب بانحراف أكثر الدراسات علمية وادعاء للموضوعية.
وبقدر ما لقي كتابه من هجوم من عتاة المستشرقين وديناصوراتهم، كان سببا لجيل جديد منهم، بأن يخشى أن يوسم بما شاب أعمال من قبله، وبات أكثر حذراً، وتوخياً للدقة.
متمرد إدوارد سعيد، بقي طوال حياته، رفض الانخراط في أي إطار تنظيمي، لم يقبل أي منصب يقيد فكره، ويحجر على كتاباته. كتب «صورة المثقف» داعياً الكتاب لأن يتحرروا من كل إغراء وألا يستمعوا إلا لأصوات ضمائرهم، لأنهم وهم يكتبون فهم مسؤولون عن تشكيل رأي الناس وذهنياتهم. آمن دائماً بأن للمثقفين دورا يجب أن يلعبوه بمعزل عن كل الاعتبارات. بقي يفخر أنه لم يمتلك أي شيء له قيمة، لا سيارة ولا بيتا ولا حتى أي من الأعمال الفنية التي كان يحبها واكتفى بجمع الأقلام والكتب.
بقي استقلالياً متمرداً ناقداً لياسر عرفات، خاصة بعد أوسلو حيث اعتبر أنه بتوقيعه هذا، حوّل حركة تحرر وطني كبرى إلى ما يشبه حكومة بلدية صغيرة، ووافق على نص لا ذكر فيه لمفردة «سيادة». شرح باستمرار أن الأولوية لا للتفرقة بين الأديان والثقافات، التي عاشت في هذه المنطقة دائماً مع بعضها. لذلك لم ير في حل الدولتين ما يمكن أن يبصر نجاحاً. لأنه إن صعدت دولة منهما استقوت على الأخرى، وبقيت الفتنة مشتعلة.
هو الوطني العلماني، الإنساني النزعة، الموغل في فهم حركة التاريخ، وإدراك عمق الحضارات، كان يختلف كلياً في نظرته البعيدة عن السياسي الذي لا يرى غير الظروف وانتهاز الفرص. أراد دولة واحدة يعيش فيها مواطنون يتمتعون بحياة رغدة وحقوق متساوية.
حين جاء عام 2000 إلى لبنان، كان ذاك قبل وفاته بثلاثة أعوام، كان الرجل مريضاً ومجهداً يتخير نشاطاته بعد سبع سنوات من مقارعة سرطان الدم (اللوكيميا) دون أن يتمكن من هزيمته. انتهز الفرصة ليلتقي الأصدقاء، وكان هذا هو الأحب إلى قلبه، يومها ذهب إلى الجنوب، إلى بوابة فاطمة والتقطت له تلك الصورة الشهيرة وهو يقذف حجراً باتجاه فلسطين، وجندي المراقبة الإسرائيلي القابع على الحدود.
بالطبع لم يكن سعيد وهو الذي يحمل الجنسية الأميركية ويزور فلسطين متى يشاء، بحاجة إلى ذلك، لكنه أراد أن يسجل موقفاً ضد الاحتلال، ضد الاستعمار الذي ذهب في البحث عن جذوره إلى قرون خلت قبل أن يبلور رأياً، لعله اليوم هو الأجدر بالقراءة والفهم لكل متبصر. هو الذي كان يقول: «نعم لليهود حق في فلسطين. مع أنهم لم يعيشوا هنا سوى 300 سنة، وكان هنا أيضا فلسطينيون، وكنعانيون وآشوريون.
نعم لهم حق، لكن ليس من حقهم أن يطردوا الآخرين من بيوتهم». لو كان إدوارد سعيد بيننا لكان يحتفي هذه الأيام بعيده الثالث والثمانين، ولأدركنا ربما أكثر، كم كان هذا المثقف الكبير، المفتون بالموسيقى والأوبرا والرسم والأدب، منتفضاً لا من أجل كرامة الفلسطينيين، وإنما للدفاع عن «الكرامة الإنسانية» أينما خدشت.