داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

الطبقة الوسطى العربية في مهب الريح

تشهد دول كثيرة في العالم الثالث تراجع الطبقة الوسطى بسبب موجات الغلاء والبطالة وضمور التأمينات الاجتماعية الأساسية. ودقت المنظمات الدولية مثل «الأسكوا»، وهي اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة، جرس الإنذار في تقاريرها السنوية الأخيرة عن تأثيرات الحروب والاضطرابات والغلاء على المجتمعات العربية وخاصة الطبقتين الفقيرة والوسطى.
من الطبيعي أن تولي الدول اهتمامًا خاصًا لقضايا الفقراء ومحدودي الدخل، لأن أغلبية السكان في كل المجتمعات هم من هاتين الطبقتين، مهما بلغت درجة رخاء بعض المجتمعات. لكن الفرق بين الدول يمكن قياسه في درجة الرقي في الاهتمام بدرجات السلالم الأولى لأنها الأساس الذي تعلو عليه بقية السلالم. فلا وجود لطبقة غنية معلقة في الفضاء بانهيار الطبقتين الفقيرة والوسطى.
كل جيوش العالم والعلماء والتقنيين والباحثين والمخترعين والجامعيين والأطباء والمهندسين والعمال والفلاحين والكسبة من الباعة والقائمين على النقل البري والبحري والجوي، وصولاً إلى رواد الفضاء في الشرق والغرب هم من الطبقة الوسطى. الإنسان الأول الذي هبط ومشى على القمر نيل أرمسترونغ، صاحب العبارة الشهيرة «خطوة عملاقة للبشرية» بدأ حياته مدققًا للحسابات. ومن النادر أن تجد أحدًا بين حائزي جائزة نوبل في أي مجال ممن ولدتهم أمهاتهم وفي أفواههم ملاعق من ذهب.
يهمني في هذا المقال أن أتحدث عن الطبقة الوسطى في العالم العربي، وهي الطبقة الأوسع تأثيرًا في المجتمعات العربية والأكثر طموحًا وانكسارًا. لقد كتب الباحثون ملفات لا تحصى عن دور الطبقة الوسطى العربية في التنمية والبناء والتحديث والبنى التحتية وقيادة مفاصل الدولة ومؤسساتها، وبضمنها الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية، والجامعات والمدارس وأجهزة الإعلام والبنوك والأسواق.
عمليًا تعتبر الطبقة الوسطى في مصر الأكبر والأكثر تأثيرًا بين مثيلاتها في الدول العربية الأخرى بسبب التعداد السكاني والاستقرار السياسي النسبي وتراكم الخبرات والانفتاح على العالم. وكانت الطبقات الوسطى في العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا والسودان والجزائر فعالة ومؤثرة قبل الحروب التي خاضتها ودوامة الصراعات الطائفية والسياسية التي هزتها. أما الطبقة الوسطى الخليجية، الأكثر رفاهية، فهي في أعلى درجات السلم الاجتماعي ليس عربيًا فقط، وإنما دوليًا، وهذا أمرٌ يدعو للاعتزاز. وبين هذه وتلك يمكن أن نصنف الطبقات الوسطى في المغرب وتونس والأردن. إلا أن الأمر الجديد الشديد الوطأة على هذه الطبقة الأساسية في كل المجتمعات الإنسانية هو ظاهرة الهجرة شبه الجماعية العربية. فقد شكلت الطبقة الوسطى الغالبية العظمى من أعداد المهاجرين العرب إلى أوروبا وأميركا ومعظمهم من ذوي الكفاءات والمهارات والخبرات العليا.
لم أجد إحصاءات رسمية لموجات الهجرات في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي، ولكني قرأت أرقامًا تقدرهم بمئات الآلاف، معظمهم من المسيحيين واليهود. وطبعًا لا تدخل في هذه الأرقام هجرة الأشقاء الفلسطينيين القسرية من أراضيهم ووطنهم بعد الاحتلال الصهيوني الغاشم في عام 1948.
لكن الحال تغير في الثمانينات والتسعينات والعقد الأول من الألفية الثالثة؛ إذ شكل الفقراء الأغلبية الساحقة للمهاجرين العرب الجدد الذين «فتحوا» أوطانًا جديدة للهجرة غير أوروبا وأميركا مثل أستراليا ونيوزيلندا وأفريقيا الغربية وأوروبا الشرقية. ومع الفقراء الباحثين عن عمل أو الحالمين بحياة أفضل كانت هناك نسبة متصاعدة من الهجرة السياسية بسبب أنظمة القمع العربية هنا أو هناك.
وأريد الحديث هنا بحكم التجربة والخبرة عن الطبقة المتوسطة العراقية التي وجدت نفسها بعد الاحتلال الأميركي في عام 2003 مرغمة على الهجرة من بلدها إلى القارات الخمس بحثًا عن الأمان قبل كل شيء. لقد أدت هذه الطبقة منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في عام 1921 دورًا كبيرًا في التحولات الاجتماعية، وبرزت منها القيادات السياسية والاجتماعية التي بنت بسواعدها الصرح الاقتصادي الذي بدأ يتداعى للأسف مع حربي إيران والكويت والحصار الاقتصادي وصولاً إلى نكبة الاحتلال الأميركي.
وقرأتُ وسمعتُ وآمنتُ أن المحتلين الأميركيين والإيرانيين أدركوا أن الطبقة الوسطى تمثل العقبة الكأداء أمام تحقيق أطماعهم، وهكذا شرعوا بحل الجيش والأجهزة الأمنية وتفكيك الجهاز الإداري المدني ومحاولة إعادة إنتاجه على أسس طائفية وعرقية متخلفة وجاهلة. وبدأت ميليشيات وقوى سياسية موالية لإيران بشن حملة مطاردة واغتيال منظمة للعلماء وأساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين والمثقفين والأدباء والصحافيين والفنانين والضباط والطيارين والكوادر الوسطية المهمة في مرافق الدولة. وساهمت قوانين الاجتثاث والمساءلة والنازية بدفع مئات الألوف من العراقيين إلى الفرار من البلاد. وتقدر منظمات غير حكومية عدد اللاجئين العراقيين الحقيقي داخليًا وخارجيًا بين 7 ملايين إلى 10 ملايين مواطن كلهم من الطبقة المتوسطة مع نسبة ليست قليلة من الأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال. وقـَدّرَت جهات أجنبية محايدة عدد العلماء العراقيين الذين أُجبروا على ترك البلاد منذ احتلاله بنحو 17 ألف عالم وخبير ومبدع. والغريب أن الحكومة العراقية الحالية لا تريد «استرداد» نخب البلاد العلمية والاقتصادية والمهنية. وبلغ الأمر مداه حين نصحت وزارة الهجرة والمهجرين العراقية اللاجئين العراقيين في سوريا، ويزيد عددهم على مليون وربع المليون نسمة، بمغادرة سوريا بسبب الأوضاع المضطربة فيها إلى دول أخرى ليس من بينها العودة إلى وطنهم العراق!
يقول عالم النفس الاجتماعي البريطاني ريتشارد هوغارت إن التمييز بين الطبقات لا يختفي، لأنها تتعلم طرقًا جديدة للتعبير عن نفسها. ومع كل عقد من الزمان نقول إن الطبقية ماتت... لكن النعش يبقى فارغًا. قد تنهار الأطر العامة للطبقة أو تتداخل مع بعضها، لكن الانتماء الوطني والشعور بالمسؤولية في أوقات الأزمات رهن الإشارة. ويرى بعض الباحثين أن من الخطأ حصر الطبقات الاجتماعية بثلاث فقط «فهي 7 طبقات، تعلوها نخبة ثرية نسبتها تحتل 6 في المائة كمعدل عام من السكان، فوق تشكيلة واسعة من الطبقات العاملة والوسطى تقف على أحجار هرم الدولة».
ويبقى سؤال؛ كيف يتم تصنيف الطبقات الاجتماعية؟
تعلمنا أن الطبقة في أي مجتمع لها رأسمالها الاجتماعي والثقافي والاقتصادي. وأبرز سمات كل طبقة مستوى التعليم والراتب والوظيفة وملكية المنزل الذي تسكنه الأسرة. كلما انخفض المستوى، قلنا لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا. وكلما ارتفع المستوى قلنا الحمد لله.