إميل أمين
كاتب مصري
TT

الانتخابات الأميركية وقبول الآخر المغاير

يمكن للمتابع لسير العملية الانتخابية الأخيرة في الولايات المتحدة، وما جرى مِن حولها أن يُطلِق أوصافاً عدّة على الداخل الأميركي، الذي يراه البعض منقسماً، وهو ما ذهبت إليه صحيفة «نيويورك تايمز» على صدر صفحتها الأولى، اليوم التالي للاقتراع، وللمهتم بالشأن الداخلي الأميركي أن يجزم بصراعات سياسية مقبلة، لا سيما بعدما عاد الديمقراطيون للسيطرة على مجلس النواب، بينما احتفظ الحزب الجمهوري بالغالبية في مجلس الشيوخ، الغرفة الأعلى في الكونغرس الأميركي، والكثير من التضادّات الظاهرة على السطح في ذلك البلد الإمبراطوري.
غير أن الموضوعية تقتضي منا الإشارة إلى مشهد إيجابي خلاق تجلَّى، الساعات الماضية، في الداخل الأميركي، أظهر أن هناك تياراً ليبرالياً حقيقياً يؤمن بالوصل والتواصل الإنساني، ويقفز على الأطر المقولبة، لا سيما إذا كانت متصلة بدورها بمسألة حرية الإيمان والعقيدة، دينية أو سياسية، ما يفيد بأن تجربة التعددية الأميركية قائمة وآتية بالفعل، وأن قبول الآخر في طول البلاد وعرضها مسألة جوهرية، وهي التي كفلت للولايات المتحدة جوهر حلمها وفكرتها، عبر القرون الثلاثة الماضية.
ليس سراً القول إن الولايات المتحدة، وعبر عقدين تقريباً، وجدت مَن يصنع حدوداً، بل ويضع قيوداً بينها وبين كل ما هو، ومن هو مسلم، ما تعمق أخيراً، وقد زخمته تطورات سياسية بعينها.
على أبواب صناديق الاقتراع، الأيام الماضية، ربما تذكَّر الأميركيون ما أشار إليه الرئيس آيزنهاور عن الكارثة الكبرى التي يمكن أن تصيب البلاد، إذا شاع الخوف وبالقدر نفسه بدا وكأن هناك حالة من الرفض لفكرة إمبراطورية الخوف التي تحدثت عنها طويلاً مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأميركية في زمن الرئيس بيل كلينتون. قبل الانتخابات والنتائج كانت المخاوف الناجمة عن مرض رهاب الإسلام أو الإسلاموفوبيا قائمة، لا سيما أن هناك عدداً كبيراً يصل إلى المائة مسلم أميركي قد ترشح لخوض غمار المعركة الانتخابية، سواء بقصد الوصول إلى مناصب على المستوى الفيدرالي، أو على مستوى الولايات، وقد واجه بعضهم صعوبات جمة.
في هذا السياق المثير للقلق، كان من الطبيعي ألا يُوفى الحظ لأي من المرشحين المسلمين، سواء للنواب أو الشيوخ، غير أن المفاجأة الطيبة تمثلت في فوز كل من إلهان عمر الصومالية، ورشيدة طليب ذات الأصول الفلسطينية وكلتاهما مسلمة، بمقعدين في مجلس النواب.
على أنه قبل تحليل معنى ومبنى ذلك الفوز، لا بد من الإشارة إلى أن هناك جيلاً عربياً جديداً في الداخل الأميركي، بمسلميه ومسيحييه، يعرف جيداً كيفية التعاطي مع الذهنية الأميركية، وغالباً ما ينتمي هؤلاء إلى جيل الألفية، أي أولئك الذين وُلدوا في الفترة ما بين عامي 1981 و1996، وقد باتوا قوة محركة فاعلة في الداخل الأميركي، والأمر نفسه ينسحب على عموم الأميركيين من العمر نفسه.
يبدو واضحاً كل الوضوح أن الجالية العربية والإسلامية في الداخل الأميركي قد آمنت بأنه قد حان الوقت المناسب للتغيير عبر التلاحم مع «الواسب» الأميركي، أي البيض البروتستانت من أصول أنغلوساكسونية، وأن الانعزال والشعور بالنقص وصغر الذات، أمور لا تفيد، بل المبادرة إلى رسم صورة جديدة للعربي والمسلم، بوصفه مواطناً صالحاً، كامل الأهلية، يسعى لخدمة بلاده، من دون أن يعني ذلك بالضرورة تقديم تنازلات تختص بحياته الروحية أو مبادئه الدينية.
عُرفت أميركا على الدوام بأنها دولة علمانية الهوية، لكن جميعنا يدرك تمام الإدراك أنها دينية الهوى، وأن هناك مَن يغازل التيارات اليمينية ذات الولاءات العقائدية، لكن انتخاب إلهان ورشيدة أثبت أنه لا يزال هناك من يخشى على حلم مدنية الدولة، تلك التي لا تفرق بين أبنائها على أساس مذهبي أو عرقي.
الحلم الأميركي لا يزال قائماً بالفعل، وإلا فإنه كيف لطفلة قضت طفولتها في مخيم للاجئين في كينيا، وهاجرت إلى الولايات المتحدة، وهي في عمر الثانية عشرة، أن تفوز بمقعد نائبة في مجلس ولاية مينيسوتا عام 2016، ما دفعها وأطلق حماسها لأن تجتمع بالأميركيين الذين قادوها إلى ذلك المنصب، وتسألهم أن يصنعوا التاريخ مرة جديدة، ويرفعوها إلى واشنطن لتحتل مقعداً متقدماً في مجلس النواب، ولتحقق الحلم ليس فقط بالنسبة لها، ولكن لكثيرين من الذين كان أديب روسيا الكبير فيودور دوستويفسكي يصفهم بـ«أقنان الأرض» حول العالم، الساعين والمتطلعين للحرية في العالم الجديد.
والشاهد أنه بعد اثنتي عشرة سنة من كيث أليسون، أول مسلم يدخل الكونغرس عن ولاية مينيسوتا، ها هي رشيدة طليب، ابنة مهاجرين فلسطينيين سابقين تتجرأ على الأمل التقدمي، وتترشح وتفوز، ما اعتبرته رسالة قوية لكل القاطنين في المعمورة الأميركية مفادها: «نحن جزء لا يتجزأ من المجتمع، ونريد أن نقدم له شيئاً في المقابل، مثل أي فرد آخر».
رشيدة طليب نموذج إيجابي للمرأة العربية الأميركية، حازمة وذات كفاءة وتعمل بجهد وتتمتع بجاذبية كبرى، تهتم بالناس وبالمجتمع الذي نشأت فيه، وأفضل ما فعلته أنها لم تقم بحملة انتخابية بصفتها مسلمة، وإنما كمواطنة من جنوب شرقي ديترويت، مسلمة الديانة، أميركية الولاء والانتماء، ولهذا بات الطريق أمامها مفتوحاً.
فوز إلهان عمر ورشيدة طليب يؤكد مصداقية المثل الصيني القائل: «إن كان المثل يؤثر فإن العمل يجذب»، فقد استطاعتا بالفعل جذب جمهور الأميركيين الذين رفضوا أن تُكبّل أيديهم وعقولهم بأحكام نمطية مسبقة عن المواطن الأميركي جنسية والمسلم ديناً.
نتائج قبول الآخر لم تتوقف عند المسلمتين الأميركيتين الفائزتين فقط، بل هناك علامات أخرى على الصحة النفسية للناخب الأميركي، ذاك الذي صوَّت لصالح المرأة الأميركية بكثافة، واختار نائبتين من جذور أميركا الأصلية، أي الهنود الحمر، وتغاضى عن حريات شخصية لبعض المرشحين لحكام الولايات وصوّت لصالحهم، وعرف مجلس النواب أصغر نائبة عمراً في تاريخه.
ولعل القول المكين في الرد على المتطرفين والمتشددين من الأميركيين هو أن الحريات الحقيقية والدول المؤسساتية لديها القدرة على تصحيح المسار بشكل ذاتي، كما أن الحرية تطرد الخوف خارجاً، وهذا ما قد يمسح الغبار الذي التصق بالثوب الأميركي أخيراً.
الخلاصة: هناك حِراك اجتماعي وسياسي مثير في الداخل الأميركي، ويُنتظر أن يتصاعد في العامين المقبلين من حكم إدارة الرئيس ترمب الأولى، وفي كل الأحوال تكشف التطورات السريعة عن صحوة أميركية ليبرالية حقيقية، تسعى لإعادة صورة المدينة الأميركية فوق الجبل، التي يفاخر بها الأميركيون.