سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

جلال أمين... العكس صحيح أيضاً

رأينا في الحلقات السابقة موقف الدكتور جلال أمين المعادي لكل من حاول تلقيح الأصالة بالمعاصرة. إنه مصري عربي فلاحٌ ولا شيء آخر. ولذلك رفض يوسف شاهين رفضاً كاملاً، واعترض على معظم أعمال محمد عبد الوهاب، وغمز من تأثر توفيق الحكيم بالمسرح والأدب الغربي وعاب عليه أن كعبته كانت في باريس.
فماذا يأخذ إذن على عملاقٍ مثل نجيب محفوظ رفض طوال عمره الخروج من القاهرة، أو زيارة أي عاصمة غربية، أو حضور أي مسرحٍ في الغرب أو مهرجانٍ سينمائي. إليكم حرفياً رأي الدكتور جلال في هذا النمط الذي عاشه صاحب نوبل: «إنه رجل يجلس مع الكتاب والورق والقلم أكثر بكثير مما يجلس مع الناس. إنه يهوى الاستماع إلى الناس بلا شك، ولكنه فيما يبدو يعشق القراءة أكثر من ذلك بكثير. وهو زاهد جداً في رؤية بلاد جديدة، وكذلك، على الأرجح، في مقابلة أشخاص جدد.
هل يتصور أحد بسهولة أن هذا الرجل العظيم ليست لديه تجربة في الريف إلا تجربة وحيدة تنحصر في إقامته في الفيوم أسبوعاً واحداً وهو طفل صغير، وقد أصرّ على عودته إلى القاهرة فخضعوا لطلبه، وأنه لم يذهب إلى الصعيد في حياته ولا مرة واحدة، ولم يرَ الأقصر وأسوان أو أياً من الأماكن الأثرية المشهورة هناك؟ يقول إن معرفته بالريف المصري والصعيد جاءت فقط من خلال قراءة الأعمال الأدبية كـ«دعاء الكروان» و«الأيام» لطه حسين، وإنه اكتفى في التعرف على الصعيد بالقراءة والاستماع إلى ما يقوله الآخرون، والسبب هو «الكسل». ولكني لا أصدق هذا التفسير بسهولة، أو هو على الأقل كسل من نوع خاص جداً. فنجيب محفوظ أبعد الناس عن الكسل، سواء في أداء عمله أو في تريضه اليومي، أم مجرد الافتقار إلى الرغبة في رؤية أماكن جديدة.
الأغرب من هذا زهد نجيب محفوظ في السفر إلى الغرب. فهل يستطيع أحد منا بسهولة أن يتصور أن هذا الرجل الحكيم، العاشق للفن والأدب، لم يبذل أي جهد لرؤية أوروبا وأميركا، على الأقل لكي يرى بنفسه هذا «الغرب» الذي شكل الموقف منه أهم مشكلة فكرية واجهت مفكري أمته، جيلاً بعد جيل، منذ رفاعة الطهطاوي، الذي يلخّص الموقف منه مشكلة التقدم والتخلف كلها. كيف استطاع نجيب محفوظ، هذا الرجل الذي لا شك في قوة ما لديه من حب الاستطلاع، أن يقاوم الرغبة في استطلاع هذا العالم الغربي لتكوين رأيه الخاص فيه؟ لا بد أن يعتري الواحد منا الشعور بالأسف، إذ يجد نفسه حُرم من معرفة رأي هذا الرجل العاقل، المبني على المعاينة المباشرة للغرب، ولا بد من أن يعتري المرء منا التحفظ عندما يقرأ إشارات نجيب محفوظ المختصرة والمتناثرة إلى موقفه من الحضارة الغربية ومن التقدم والتخلف».