مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

أموت وأنا (أتنهّد)

حزنتُ من قصة، أو بالأحرى، من حادثة شاهدت بعضاً من مراحلها قبل عدة سنوات منقولة مباشرة على إحدى المحطات الفضائية.
فقد شبّ حريق هائل في إحدى العمائر بمدينة أميركية، ووصلت سيارات إطفاء الحريق إلى الموقع، وكانت هناك امرأة سوداء سمينة تلبس (شورتاً)، وهي جالسة على حافة نافذة في الطابق الرابع، وكان صراخها يطغى حتى على أصوات أبواق سيارات الإسعاف والبوليس وإطفاء الحريق.
وكلما خاطبوها من الأسفل بالميكروفونات، وطلبوا منها أن تتماسك وتهدأ إلى أن يهيئوا سلالم الإنقاذ للوصول إليها، زادت بزعيقها وجعيرها الذي يصم الآذان.
وأوصلوا السلم أخيراً إلى النافذة، وصعد إليها شاب شجاع، وأخذ يحفّزها على النزول ممسكاً بإحدى يديها، على أن تنزل وراءه خطوة بخطوة، غير أن تلك المرأة المرعوبة، أو بمعنى أصح المجنونة، رفضت ذلك. وبينما كان هو يحاول إقناعها، إذا بها فجأة ترمي بثقلها كله عليه وتتشبث برقبته، وتطوقه من خاصرتيه بقدميها الغليظتين، فاختل توازن المسكين، وأصبح وزنها الثقيل مع وزنه عبئاً لم تستطع درجات السلم أن تتحمله، فانكسرت إحدى الدرجات، وسقط مصطدماً بحائط من الإسمنت بجانب السلم، ثم ارتد وهوى على الأرض وهي فوقه، كل هذا حصل وهي لا تزال تملأ الشارع صراخاً.
وقعت دون أن تصاب بشيء، وأخذت تنفض ثيابها مما علق بها من جراء السقوط، وتحول صراخها فجأة إلى ضحك هستيري من شدة الفرح، وأخذت تصفق وترقص وتتنطط (كالمنطاد)، في الوقت الذي كان فيه رجل الإنقاذ لا يزال منطرحاً على الأرض وفاقد الوعي والدماء تسيل من أنفه وأذنيه.
ونقلوه إلى المستشفى، وعندما كشف عليه الأطباء وجدوا أن دماغه قد توقف عن العمل نهائياً، وبعد أيام ساءت حالته وتدهورت، وقبل أن ينزعوا الأجهزة عنه، سألوا والدته إن كانت ترغب في التبرع بشيء من أعضائه لمستحقيها، فوافقت على ذلك وهي تبكي.
وفعلاً: نزعوا كليتيه، وكبده، وقرنيتيه، والبنكرياس، وقلبه، وزرعوها في خمسة من المرضى الذين كانت حياة بعضهم - بعد مشيئة الله - معلّقة بهذا التبرع.
وهكذا أنقذ ذلك الشاب، الذي لم يكن عمره يتجاوز 26 سنة، تلك المرأة البدينة صاحبة الصوت العالي، وأنقذ أيضاً بموته هو حياة آخرين.
لا أكذب عليكم أنني حزنت جداً على ذلك الشاب، وحسدته، وتمنيت أن أفعل مثلما فعل هو، من أجل أن يكتب الله لي أجراً جزيلاً على تضحيتي، على شرط ألا تكون نهايتي تحت ثقل مثل تلك المرأة الضخمة، وإنما يحق لي أن أختار مواصفات مَن سوف تسقط عليّ، وتنقلني بكل سلاسة وجاذبية إلى العالم الآخر.