سام منسى
إعلامي لبناني قدم لعدة سنوات برنامجا حواريا سياسيا في قناة الحرة. المدير العام لإذاعة "صوت لبنان" سابقا والمدير التنفيذي السابق لـ"بيت المستقبل"، وكاتب عمود في "الشرق الأوسط". مهتم بجمع ومعالجة البيانات المتعلقة بشؤون الشرق الأوسط، خصوصاً الجوانب السياسية والاجتماعية للتنمية العربية.
TT

ديمقراطية أميركا ضابطة الكل

اللافت في خضم الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة مدى اهتمام دول المنطقة بنتائجها وتداعيات هذه النتائج عليها، حتى باتت معها الشؤون الداخلية الأميركية من صلب اهتمامات الساسة في بلادنا وجزءًا من همومنا ومن سياساتنا الداخلية والخارجية معاً. لأن سياسة أميركا الخارجية هي كما يقال سياسة داخلية، أصبحت السياسة في الإقليم تعيش وتنام وتستيقظ على وقع السياسة الداخلية الأميركية.
هذا التوصيف فيه الكثير من شطحة الكاريكاتير، إلا أن كثرا في المنطقة يعولون على ما سوف ترسو عليه الأمور في الولايات المتحدة. وهذا التعويل صحيح إلى حدّ ما، إنما في الوقت نفسه قد يشوش ويضعضع صناعة القرار عندنا بسبب زئبقية السياسة الأميركية نتيجة لعوامل كثيرة ومتنوعة تؤثر على الرأي العام في أميركا وتحدث تغييراً مستمراً في مؤسسات الحكم، التشريعية منها والتنفيذية، وهذا ما يعرف بتداول السلطة ولا يشبه غالباً الأحوال في منطقتنا لا سيما لجهة تأثير الرأي العام على صناع القرار.
ما يهمنا هو انعكاس نتائج هذه الانتخابات على سياسة واشنطن الخارجية لا سيما في الشرق الأوسط، وهل سيحصل تغيير عميق أو شكلي إزاء قضايا رئيسية أبرزها إيران والحرب في سوريا والحرب على «داعش» والنزاع الإسرائيلي الفلسطيني. فهل سيكون لهذه النتائج في منتديات التشريع من تأثير على توجهات وقرارات إدارة ترمب الخارجية؟
يتمتع أساساً الرئيس الأميركي بصلاحيات واسعة على مستوى السياسة الخارجية، كما أن الغالبية في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ لصالح الجمهوريين، ما يعني مبدئياً أن نتائج الانتخابات وفوز الديمقراطيين بالأكثرية في مجلس النواب لن يكون له بصورة عامة تأثير يذكر على قرارات الإدارة إزاء الاستحقاقات الخارجية، لا سيما القضايا المذكورة أعلاه. إلا أنه يتوقع أن يحرك الديمقراطيون الكثير من الملفات بوجه الرئيس ترمب، ما من شأنه وضع العصي في طريقه وتبديد تركيزه على أولوياته وسبل مقاربتها.
كرست الانتخابات النصفية ما أظهرته الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وهو أن أميركا تعاني من أزمة اجتماعية ثقافية حادة، والرئيس ترمب هو نتيجة لها وليس سبباً حتى ولو أنه يفاقم بعضاً منها. من أبرز تجليات هذه الأزمة الثقافية الاجتماعية هو الابتعاد عن القيم الأميركية المؤسسة للعقد الوطني الذي كانت تلتف حوله غالبية الشعب الأميركي، حتى بات كل من اليمين المتشدد واليسار المتشدد يفسر هذه القيم على طريقته وبشكل متباين وصدامي. المثال الأبرز على هذا الواقع هو الخلاف على قضايا مثل الإجهاض والجندرة والمهاجرين والسلاح وحقوق المثليين وغيرها. صحيح أن هذه القضايا لطالما شكلت مسائل جدلية بين المحافظين والليبراليين، إنما لم يبلغ التجاذب عليها مستوى الحدية الذي وصل إليه اليوم، وما يؤججه هو سذاجة اليسار من ناحية وعنف اليمين وتشدده من ناحية أخرى. يضاف إلى ذلك تراجع الثقة لدى الكثيرين بالمؤسسات الفيدرالية في واشنطن جراء الفجوة الواسعة بين أصحاب الثروات وعموم الناس، الذين باتوا يعتبرون أن واشنطن هي مصدر الفساد ومركز المال ومرتع للمتمولين.
هذا التجاذب الحاد يسمم السياسة الداخلية في الولايات المتحدة، ولم يكن ينقصه ليتفاقم إلا شخصية على غرار شخصية الرئيس ترمب. إن التشدد لدى الجانبين يجيز توقع أزمات متلاحقة ظهرت باكورتها مع إقالة وزير العدل، جيف سيشنز، بعد ساعات قليلة من إعلان نتائج الانتخابات، في خطوة اعتبرها بعض وسائل الإعلام الأميركية تمهيداً لإقالة المحقق روبرت مولر الذي يتولى النظر في الصلات الروسية بالانتخابات الرئاسية الأخيرة، أو على الأقل تقييد حرية حركته. ولا نستطيع إغفال أن يكون الدافع وراء هذا القرار هو خشية ترمب من أن تحرك الغالبية الديمقراطية في مجلس النواب عجلة التحقيق بهذه القضية وغيرها أيضاً. وفي حال تمت إقالة مولر بعد إقالة وزير العدل، قد تكون سببا لسجالات دستورية وحقوقية نعرف كيف بدأت ولكن لا نعرف كيف ومتى تنتهي، مثل فيلم أميركي طويل.
هذا السرد يظهر مدى الانشغال وحتى الإرباك الذي قد يصيب الإدارة الأميركية.
على المقلب الآخر، يظهر إقليمياً تسرع في بعض ردود الفعل على نتائج الانتخابات بدءا من إيران التي نعت الديمقراطية في أميركا جراء ما وصفته بـ«مخالفات التصويت»، منوهة في الوقت عينه بفوز امرأتين مسلمتين. أما نبيل شعث، مستشار الرئيس الفلسطيني محمود عباس للشؤون الخارجية، فاعتبر النتائج هزيمة للرئيس ترمب وفرصة لتقييد صفقة القرن، في وقت رأى نائب وزير في مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية، السفير مايكل أورن، أن النتائج قد تعجل في إعلان الصفقة وتزيد اهتمام ترمب بالشؤون الخارجية. غاب عن هذه العينة من المواقف أمران: الأول أن الخلافات الرئيسية بين الحزبين ليست على القضايا الخارجية وإنما على القضايا الداخلية، والثاني الشك في قدرة ترمب على التفاوض مع خصومه حول تسويات ومهادنات. في هذا الإطار، المثل الكوري الشمالي فاقع وثغرات العقوبات على إيران لا تخفى على أي متبصر فيها.
من جهة أخرى، لا ينكر على ترمب أن خطابيته المتأججة رفعت من معدلات المشاركة في التصويت في انتخابات نصفية عادة ما تكون باهتة. صحيح أن ترمب الجمهوري خسر مجلس النواب أمام الديمقراطيين، علما بأن هؤلاء لم ينجحوا في تحقيق غرضهم بنيل أكثرية الثلثين، وهذه خسارة معروفة تقليدياً، وعانى منها كل من سبقه من الرؤساء. إلا أنه في المقابل حقق ما لم يحصل إلا نادراً منذ 105 أعوام، وهو انتصار حزب الرئيس انتصاراً لافتاً في مجلس الشيوخ.
مع الملاحظة الثابتة أن المجتمع الأميركي يعاني انقسامات جدية، إلا أن الديمقراطية قد تكون حجمت شعبوية ترمب وطروحات اليمين المتشدد والعنفي كما حجمت اليسار المتطرف والفوضوي، بما يشي أن الحاجة باتت ماسة لمحاولة التقارب بين الطرفين والاجتهاد لإيجاد حلول وسطية من أجل عيون الديمقراطية!