د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

الفنون ودورها في تحديث المجتمعات

كان اليوم هو الأخير في ما كنت أقوم به من عمل في الولايات المتحدة الأميركية خلال الشهرين الأخيرين، وبعدها تكون العودة إلى القاهرة مرة أخرى. وكان المكان هو «ركن الصخرة Rock Corner» في ولاية «مين Maine»، أما المناسبة فكانت «خلوة» الباحثين ما بعد الدكتوراه، الذين يعدِّون رسالتهم العلمية للنشر ككتب للرأي العام، في مركز كراون لدراسات الشرق الأوسط في جامعة «برانديز» بولاية «ماساشوستس». الفكرة جيدة، ويا ليت جامعاتنا العربية تعتنقها، فلا يعد الدفاع عن رسالة الدكتوراه بالنسبة إلى الدارسين نهاية المطاف، بل إنه بدايته، ليس فقط في ممارسة البحث العلمي أو التدريس في مؤسسات جامعية، وإنما أيضاً في العبور بما جاء في الرسالة إلى الجمهور الواسع. هذا التجمع هدفه إعداد الطالب السابق لكي يكتب الرسالة مرة أخرى بحيث تكون مقبولة من قارئين مختلفين عن هيئته العلمية؛ وحتى تقديم النصح له بكيفية إقناع دور النشر بنشر الكتاب المعنيّ، فهذه لها مهاراتها، ومن بينها التعرف على دار النشر المناسبة. في ذلك اليوم كانت الباحثة المؤرخة والمتخصصة في الدراسات المصرية قد حصلت على الدكتوراه بالفعل، بل إنها نشرت رسالتها، الجديد في الأمر أنها كانت تُعدّ لكتابها الثاني، وكان للمفاجأة عن ليلى مراد المغنية المصرية التي ذاع صيتها خلال الأربعينات حتى الستينات من القرن الماضي.
فمن المشروع تماماً في الدراسات الأكاديمية أن يختار الباحث دراسة حالة لا بد أن تكون معبِّرة عما يريد دراسته، وهو في هذه الحالة تاريخ مصر خلال فترة حرجة من تاريخها جرى فيها الانتقال من المَلَكية إلى الجمهورية، ومن حكم أسرة محمد علي إلى حكم الضباط الأحرار، ومن فترة الاحتلال الإنجليزي إلى فترة زوال الاحتلال ولكن بدء الصراع مع إسرائيل. ليلى مراد كانت «حالة»، فهي فنانة نجمة ذائعة الصيت، وفضلاً عن غنائها العذب الذي قد يبدو قادماً من السماء، فإنها مثَّلت أفلاماً كثيرة حصلت فيها على ما لم يحصل عليه إلا ندرة من الفنانين بأن كان اسمهم جزءاً من الأفلام التي يمثّلونها، فكان لها «ليلى بنت الفقراء» و«ليلى بنت الأغنياء» و«ليلى بنت الصحراء» (أظن، وليس كل الظن إثم، أن إسماعيل ياسين وحده حصل على هذا الشرف بسلسلة أفلامه في البوليس والجيش والطيران والبحرية إلى آخره). ولكن ليلى مراد كانت (يهودية) وُلدت لأسرة زكي مراد الفنية واليهودية أيضاً. ورغم أن ليلى مراد أسلمت عام 1946، فإن صلاتها بعائلتها ظلت باقية ومتشعبة. الأمر المهم هنا أن هذه الشخصية الباهرة، الصوت والتمثيل والشهرة، وقعت في تقاطع طرق تاريخية عديدة، فقد عبَرت الجسر الزمني بين النصف الأول من القرن العشرين إلى نصفه الثاني، وكانت بنت الطبقة الوسطى المتيسرة التي طحنها العوز والضيق في ما بعد، وبحكم جماهيريتها فإنها جذبت كل الطبقات الشعبية والنخبوية، وبحكم الضرورة كانت أميرة خاصة بين أمراء المملكة، وعندما قامت الثورة وقعت في حب واحد من الضباط الأحرار وأنجبت منه طفلاً، صارت ثائرة بين الثوار. وبحكم يهوديتها السابقة، التي وصلتها بعائلتها التي بقيت على دينها والعائلات اليهودية الأخرى، فإنها وقعت، ربما دون خيار منها، في الشبكات المعقدة للصراع العربي الإسرائيلي. أصبحت ليلى مراد معبِّرة تعبيراً دقيقاً عن عصر بأكمله، وكان فيها الظهور المتوهج حتى بداية الستينات، ثم الأفول الذابل عندما رحلت في نهاية السبعينات.
هذا المقال ليس مجالاً لا لعرض كتاب عن ليلى مراد ولا حتى الحديث عنها وعن مآثرها وموهبتها الفذة، ولكن القصد هو التنويه بالدور الذي تلعبه الفنون في عمومها في تحديث المجتمعات ورفع شأنها. والمناسبة هو الجهد الذي يُبذل الآن في المملكة العربية السعودية لتحديث الدولة من خلال مسار يبعث الماضي القديم للحضارات المختلفة التي تركت آثارها في المملكة، ومسار آخر لكي يعيش الشعب السعودي أجواء الموسيقى والمسرح والتمثيل، وباختصار الفنون المعبرة والمؤثرة في المجتمع، ومسار ثالث في السير الحديث نحو المستقبل سواء كان ذلك في العمارة أو الاتصال أو إلى القرن الحادي والعشرين باختصار. في مثل هذه الحالة فإن «الفنان» الحقيقي يكون شخصية مركزية في مثل هذه التحولات؛ وهناك في العلوم السياسية فصل كامل عما يسمى «سياسات المشاهير Politics of Celebrities»، وُلد عندما تولى الممثل السابق رونالد ريغان رئاسة الدولة الأميركية. ما نتج عن هذه الدراسات أن هناك درجة من التماثل ما بين الفنان والسياسي، فكلاهما يخاطب جمهوراً لا يعرف أفراده ولكنه يتحول إلى حقيقة لها أهميتها الفائقة؛ كما أن كليهما لديه دوافع ربما للشهرة أو المصلحة العامة تجعله يتبادل الأحاسيس مع الجموع؛ وفي النهاية فإن كليهما يبحث عن التأثير، ويسعى إلى النفوذ الذي يجعله يحرّك الجماعة كما لو كانت فرداً واحداً. وبالطبع فكما أن السياسي النبيل يسعى لرفع شأن مجتمعه ودولته، فإن الفنان النبيل أيضاً يرقّي من أحاسيس جمهوريته ويجعلها قادرة على السمو والارتقاء. كلاهما جزء أساسي من رفع شأن الأمم، وما ارتقت أمة ما لم ترتقِ نخبتها السياسية، وما لم يرتفع شأن نخبتها الفنية.
كلاهما - نخبة السياسة ونخبة الفن - جزء من عملية التحديث والإصلاح، ولا توجد أمة ارتفعت في مراتب الحضارة إلا وكانت كلتا النخبتين على درجة عالية من الارتقاء والتدريب والقدرة على جذب الكتلة الحرجة من المواطنين إلى مسار الحداثة. وما مدن الغرب المتقدم الكبرى مثل باريس وروما ولندن ونيويورك وفيينا وأمثالها إلا عملية كبرى للتغيير السياسي، ومعمل ضخم للابتكار والإبداع، ومسرح متسع للموسيقى والغناء والتمثيل. وفي الحقيقة فإن حالات الإخفاق المزمنة لعمليات التحديث في الدول العربية المختلفة ما كانت لتحدث إلا عندما لا ينجح المجتمع في تقديم نخب نبيلة تقود إلى التقدم ولا تنزع إلى الفساد؛ أو عندما تفشل في إنتاج نخب فنية تذهب إلى الرقي وتبتعد عن الابتذال. وكانت الكارثة كبيرة عندما جرى الفصل بين النخبتين فظن الساسة فساداً في الفن بالضرورة؛ أو عندما صارت الفنون مطية لتزييف المشاعر بالتعبئة السياسية. ليلى مراد لم تكن فقط موهبة فذة نجحت في جذب جمهور عريض عبر المكان إلى دول عربية أخرى، والزمان من عصر إلى آخر، ما كان خلوداً في النغم من خلال أدوات التسجيل المعاصرة؛ وإنما كانت أكثر من ذلك تعبيراً عن تلك الحيرة الكامنة في مجتمعاتنا العربية في البحث عن الحداثة والمعاصرة من ناحية، والعجز عن التخلص من الأثقال الكبرى للتخلف والجمود والخوف من مجهول التقدم واختراق حُجُب الزمن. هي حيرة ربما آن أوان حسمها حتى إذا ما جاءت ليلى مراد أو أم كلثوم أو فيروز أخريات قد نكون أكثر تأهيلاً للاستماع إليهن مما كنا عليه، أو أصبحنا فيه. إنما هي أمور معقدة ولكن أولى خطوات حل العقدة هي إدراك التعقيد!