فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

تأملات حول الاعتدال الديني في السعودية

تفتتح السعودية مرحلتها التنموية الجديدة ضمن مساراتٍ متوازية، لا يسبق أحدها الآخر، بل تمضي الرحلة بالتزامن نحو التنمية، والحرب على التطرف، ونشر ثقافة الاعتدال، والتعايش بين المذاهب والأديان. قبل أيام استقبل الأمير محمد بن سلمان وفداً من كبار المسيحيين الإنجيليين بأميركا، يرأس الوفد جويل روزنبرغ وعضو الكونغرس الأميركي السابق ميشال باكمان، بالإضافة إلى رؤساء منظمات إنجيلية أميركية، وهذه الخطوة تعزز الطريق التي خطّتها السعودية للعالم من خلال مشاريع حوار أتباع الأديان، والمؤتمرات التي تقام تحت رعاية رابطة العالم الإسلامي التي تنحت مفاهيم تعايش جديدة ضمن لغة لم يعتد عليها المسلمون في العالم، وهذه هي لغة التجديد والإصلاح من داخل المؤسسات الدينية ضمن مصالح المجتمعات الإسلامية والحفاظ على الأخوّة البشرية بشكلها الجامع.
ضمن هذا المسار أعلنت جائزة الاعتدال ممثلة بالأمير خالد الفيصل فوز الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الشيخ محمد العيسى، ومن يتتبع خطابه يميز بينه وبين بقية الحشو المطروح في بعض المجاميع الفقهية والشرعية، فهو علاوة على العدة الفقهية والشرعية، امتاز بخطاب ديني معتدل جاء من خارج الصراعات التافهة بين التيارات الإسلامية المتصارعة كما يحدث بين «الإخوان» و«السرورية» و«الجامية» و«أهل الحديث» و«حزب التحرير» وسواها من الجزر الإسلامية المتناحرة، ثم إن طرحه ليس ضمن «أزمة» كما يفعل رموز التيارات حين يوظّفون المسائل الفقهية والأبحاث المتعددة؛ لتكون نتاجات أزمة ولم تكتب بدمٍ بارد وبعين فاحصة، هذا المأزق غلب على كثير من الإنتاج الفقهي والشرعي خلال نصف القرن المنصرم في السعودية تحديداً وفي العالم الإسلامي عموماً.
وبما أن متابعة حركة الخطاب الفقهي والشرعي، ومجالات التجديد الديني من صلب اهتماماتي منذ الدراسة بكلية الشريعة وحتى اليوم، فقد اتضح بشكلٍ عميق أن ظهور شخصيات من داخل المؤسسات الدينية تأخذ على عاتقها تجديد المفاهيم الفقهية وإصلاحها، وإعادة ما أفسدته الصراعات التيارية، والأخذ بمقاصد الشريعة وكلياتها وقطعياتها وتخفيف العبء الحشوي الذي لا فائدة منه أمر صعب المنال، ولكن بمتابعة العيسى وعمله في المؤسسة المهمة هذه أشعر بتفاؤل كبير، خصوصاً أن مشروع الاعتدال يرعاه ولي العهد راعي التسامح وراسم الاعتدال الأمير محمد بن سلمان.
في حوارٍ أجري مع العيسى يقول: «الدين أحد أركان الحل المهمة، بحكم تقديره في الوجدان العام، فلخطابه تأثير كبير، وكذلك للمناهج التعليمية في العالم تأثير كبير». وأوضح أنه «يدعو لتعزيز المناهج التي تكرس فكر التعايش، وإذا طولب العالم الإسلامي بمناهج تعزز قيم التعايش والسلام واحترام الآخر، فهذا نقبله، بل ندعو إلى تعزيزه أكثر وأكثر، وإن المسلمين ينقصهم التواصل الثقافي والحضاري بالقدر المطلوب، ولا نعني به مجرد الدراسات المعرفية المادية، وإنما الحوار من أجل التفاهم والتقارب والتعاون الإنساني وتصحيح المفاهيم المغلوطة، وصولاً إلى تجاوز حالات التوجس والتخوف، ومن ثم الوقوف عند تفهم قناعة كل منا، والقناعات لا يمكن التأثير فيها إلا بالقناعة؛ أقصد الفكر بالفكر».
إن أي عملٍ إصلاحي للفكر الديني يحتاج إلى شرطين؛ أولهما: أن يكون العمل مؤسسياً وليس فردياً ولا حزبياً، وإنما ضمن مؤسسة مدنية معنية بالشأن الديني كما هو حال الرابطة، والشرط الثاني: أن يكون ضمن رعاية سياسية، وغطاء رسمي من أجل تخفيف التوتر المجتمعي من أي مفهوم ديني مختلف، أو رأي فقهي مندثر، أو فضاء شرعي تم السطو عليه وتعتيمه، وهذا كثير من خبر الشريعة بما تتفرع عنه من أبحاث في العقائد وعلم الكلام والفقه وأصوله، والتفسير وعلومه، والقرآن وبيانه وبرهانه، والحديث وأسانيده بجرحها وتعديلها، وهذه الأبواب تحتاج إلى سنين، ولا يمكن حل خلل مدته بضعة قرون بمشروعٍ سريع بعدة أيام.
لقد مرت شخصيات دينية استثنائية ولكن لأنها فقدت شرط العمل المؤسسي، وتخلت عنها الرعاية السياسية فشل مشروعها كما هو الحال بأئمة كبار، اندثر إرثهم ولم يعد لطرحهم أي صوت، وربما اعتدت عليهم أصوات العامة والقُصّاص الجهلة فشوهوهم واعتدوا على مشاريعهم وحلقاتهم العلمية والشرعية وهذا مشهود بتاريخنا الفقهي.
الرهان الآن على الإصلاح الديني ضمن المؤسسات القادرة التي لديها الصلاحية والتفويض، وأثق أن الخطاب الذي يطرح بالسعودية هو نواة للاعتدال المنشود في العالم الإسلامي.