تيريز رافائيل
TT

المشكلة ليست تيريزا ماي بل «بريكست»

إن لم تتم صفقة تيريزا ماي لـ«البريكست»، فما البديل؟
هذا هو التساؤل الذي يتعين على المشرعين البريطانيين الإجابة عنه، إن رفضوا اتفاق الطلاق الذي تفاوضت رئيسة الوزراء بشأنه مع الاتحاد الأوروبي. ربما يتوصل النواب إلى بعض الإجابات، ولكن أياً منها لن يكون باعثاً على الارتياح، ومن غير المرجح أن ينال الأغلبية البرلمانية المطلوبة.
في مساء الأربعاء، أعلنت تيريزا ماي أن حكومتها قد وافقت بالإجماع على صفقة تضمن لبريطانيا المغادرة المنظمة السلسة من عضوية الاتحاد الأوروبي. ومن شأن الاتفاق أن يتيح لبريطانيا الحد من الهجرة إلى البلاد، وهو أحد المطالب الرئيسية لأنصار «البريكست».
وبحلول صباح الخميس، كانت الصفقة قد بلغت فراش الموت!
فلقد استقال دومينيك راب، وزير شؤون «البريكست» في الحكومة البريطانية، ليصبح ثاني شخصية عامة تستقيل من هذا المنصب احتجاجاً على الصفقة التي من المفترض أنه ساعد في التفاوض بشأنها. وتبع ذلك سلسلة من الاستقالات في المناصب والرتب الأدنى من موظفي الحكومة. وهناك فرصة جيدة الآن لأن يرفض البرلمان صفقة السيدة ماي، مع التحديات التي تواجهها من قبل بعض الأعضاء البارزين في الحزب الحاكم. ولكن السيدة ماي لم تتراجع عن موقفها قيد أنملة، وأمضت قرابة ثلاث ساعات في البرلمان الخميس الماضي مدافعة عن اتفاقها، داعية نواب البرلمان إلى العمل وفق اعتبارات المصالح الوطنية.
أما خطتها المقترحة، فإنها غير صائبة بل معيبة بصورة لا يمكن إنكارها، والتوقيت كذلك مريع للغاية. ولقد ارتكبت رئيسة الوزراء بنفسها عدة أخطاء على طول الطريق. ورغم ذلك، لا تزال المشكلة الرئيسية لا تتمثل في أي مما تقدم ذكره، بل تكمن في أن نواب البلاد لا يستطيعون الموافقة على كيفية احترام التصويت على الاستفتاء بنسبة 52 إلى 48 في المائة، بشأن مغادرة الاتحاد الأوروبي.
التصويت بالرفض البرلماني مثير للإغراءات، ويمكن لكل مجموعة من المعارضين أن يقولوا إنهم اتخذوا مواقف جد صارمة حيال خطوطهم الحمراء المعتمدة.
وبالنسبة للحزب الوحدوي الديمقراطي، وهو الحزب الصغير من آيرلندا الشمالية الذي ساند حكومة الأقلية للسيدة ماي، فإن حقيقة أن الاتفاق المقترح يتيح لآيرلندا الشمالية التعامل بصورة مختلفة عن بقية المملكة المتحدة لهي أمر غير مقبول بالمرة، حيث إنهم يعتبرونه انتهاكاً للسلامة الدستورية في البلاد.
أما حزب العمال المعارض، فإنه يشكو من أن ذلك الاتفاق ليس إلا حلاً وسطاً بدرجة كبيرة حتى يكون مقبولاً، فهو لا يضمن أبداً الوصول إلى الأسواق بالاتحاد الأوروبي بشكل فعال، أو يوفر الحماية لحقوق العمال بادئ ذي بدء.
ويشعر أنصار «البريكست» في حزب ماي نفسه بالاستياء البالغ من حصول الاتحاد الأوروبي على حق النقض (فيتو) على ما إذا كانت بريطانيا سوف تترك ترتيبات الدعم التي تحافظ على وجودها ضمن الاتحاد الجمركي الأوروبي، وأن محكمة العدل الأوروبية سوف تظل صاحبة الكلمة النهائية في قوانين الاتحاد الأوروبي المعمول بها.
غير أن أياً من هذه الشكاوى لا يرقى إلى مستوى المقترح الإيجابي لأي شيء كان يمكن التوافق بشأنه بين أغلبية النواب. وأولئك الذين يرفضون صفقة السيدة ماي مع الاتحاد الأوروبي يحتاجون إلى استلهام أفكار أفضل تحل محل الأفكار الحالية.
كان هناك على الدوام مساران بديلان، غير أن أياً منهما لم يفلح في الحصول على أغلبية الأصوات البرلمانية. والمسار المفضل لدى أنصار «البريكست» يتمثل في اتفاقية التجارة الحرة، مع بعض التعديلات التي تعكس وثاقة العلاقات بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، وذلك باستخدام اتفاق التجارة بالاتحاد الأوروبي مع كندا كقاعدة انطلاق. ومع ذلك، فإن هذا الخيار لا يؤدي إلى تسوية مسألة الحدود الآيرلندية، كما أنه يفرض المزيد من التكاليف الباهظة على اقتصاد المملكة المتحدة عن الترتيبات الأخرى الأقرب للطرح.
وثمة بديل آخر، وهو التعاون الوثيق في إطار ترتيبات النمط النرويجي، التي تبقى بريطانيا وفقاً لها داخل السوق الموحدة، ولكن خارج الاتحاد الجمركي، وتملك مطلق الحرية في التفاوض على صفقاتها التجارية الخاصة. وهذا الشكل الأدنى ضرراً لـ«البريكست» من الناحية الاقتصادية يفضي إلى كثير من المشكلات التي تستعصي على الحل، وليس أدناها أن المملكة المتحدة قد صوتت بالفعل لمغادرة الاتحاد الأوروبي بصفة جزئية بغية استعادة السيطرة على ملف الهجرة، في حين أن السوق الموحدة تستلزم حرية حركة العمالة بين الأقطار الأوروبية المختلفة.
ولم يعد أي من هذين المسارين أكثر جدوى الآن. والخروج من الاتحاد الأوروبي من دون الوصول إلى اتفاق سيكون من غير المعقول ولا المقبول تماماً، ومن غير المرجح أن يمر مرور الكرام على برلمان البلاد، الأمر الذي يفسح المجال لنتيجتين أخريين؛ السماح بالتصويت الشعبي، أو إدخال التعديلات أو التنازلات التي قد تجعل من الاتفاق الحالي أكثر استساغة.
ولقد سئلت السيدة ماي، مراراً وتكراراً، خلال جلسة الخميس البرلمانية، عن إجراء الاستفتاء الثاني، فرفضت ذلك الأمر تماماً. بيد أن هناك حالة من الدعم المتنامي لهذه الفكرة التي تشكل في جوهرها عدداً من العقبات: هل ينبغي مساءلة الناخبين عما إذا كانوا يريدون البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي كخيار واحد؟ وسوف يعتبر أنصار «البريكست» هذا الأمر من قبيل الخيانة للاستفتاء الأصلي! وما الذي سيحدث إن خرج التصويت مؤيداً للبقاء بهامش مماثل؟ وماذا لو أن الناخبين فضلوا عدم إبرام الصفقات من الأساس؟
من المؤكد ألا يقبل البرلمان البريطاني الخيار الأخير، ولكن لن يقبل أنصار «البريكست» التصويت بين الاتفاق الذي يكرهونه والبقاء ضمن عضوية الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي يبغضونه بشدة.
لم تنفد الخيارات من السيدة تيريزا ماي، فقد تتقدم بمزيد من التنازلات، مثل السماح للبرلمان بالكلمة الأخيرة بشأن المعاهدة الحاكمة على مستقبل العلاقة التجارية مع الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي يجري التفاوض بشأنه بعد 29 مارس (آذار) لعام 2019. ومن شأن ذلك أن يوفر بعض الوقت، وربما يُرضي بعض من الخصوم الأكثر ليونة في مواقفهم حيال الصفقة، ولكن موقفها القيادي الراهن بات في خطر داهم.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»