سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

«هلا نوفمبر»

منذ أسبوع والكويت غارقة في حديث المطر. مرّت بالدولة موجة أمطار لا مثيل لها، وظلت تهطل إلى أن تحولت الأرض إلى بحيرات، وبلغ السيل الزبى. والزبى عند العرب المرتفع الذي لا تصله المياه. وإذ غمرت المياه الطرقات والمنازل والأبنية، أعلنت حكومة الشيخ جابر المبارك حالة الطوارئ، واستنفرت جميع القوى، وأغلقت المعاهد والمدارس وسائر المؤسسات الرسمية، وسهر الوزراء في مكاتبهم يلاحقون عمليات الإنقاذ والإسعاف وطالبي الإيواء الذين دمرت السيول منازلهم. وأغلقت الموانئ البحرية كما يحدث في أعاصير فلوريدا، كما أغلق المطار في وجه الرحلات المغادرة والقادمة.
وعندما هدأت العاصفة الكبرى كانت قد تركت خلفها 100 ملم من الأمطار، أي نحو سدس ما يسقط في لبنان خلال عام! ومن ثم بدأت المضاعفات. وأولها أنها وحّدت الكويت. وللمرة الأولى امتدح المعارضون التقليديون معالجة الحكومة لسيل من الصعوبات والمفاجآت. وحدث ما لم يحدث في أي دولة عربية أخرى، عندما استقال وزير الأشغال محملاً نفسه ووزارته مسؤولية الهفوات، بدل أن يحملها وزير التجارة أو التربية أو الشؤون الاجتماعية.
وفي حيويتها المعتادة وتنافسيتها بدأت صحف الكويت بتغطية مساحات السيول بمساحات من الحبر. وبحث المتفائلون عن فوائد الأمطار وطرحوا الأسئلة على الخبراء: أولاً، خفض التلوث. ثانياً، الصحة والعافية. ثالثاً، أو أولاً مرة أخرى، لا غبار هذا الصيف فالسيول تماسك الرمال.
ولم يتأخر المتشائمون في الظهور: الأضرار التي لحقت بالطرق. التكاليف. إصلاحات البيوت. وإلى آخره. لكنهم كالعادة، الأقلية. وقد اعتادت الكويت على أن ترحب بضيوفها في شهر 2 تحت عنوان «هلا فبراير»، وسوف تضيف إليه هذا العام «هلا نوفمبر».
فإذا كان فبراير (شباط) شهر الاستقلال، فإن هذا الآن هو شهر «المعدن الثمين» كما يسميه الكاتب أحمد الصراف. فقد أظهر الكويتيون كما فعلوا في الأزمات الطبيعية الكبرى، كيف يتعاونون ويصبحون عائلة واحدة، هم الذين يستطيعون الجدل في الصحف والديوانيات ومجلس الأمة الذي يرأسه رجل دولة يمثل بالدرجة الأولى عروبة الكويت وعراقة هذه العروبة، التي لم تؤثر بها مرارة الاحتلال ووضاعة الغزو الذي دمّر الثقة بالرابطة العربية في كل مكان إلا هنا، حيث عاش الكويتيون عذاباً لم يتوفق في وصفه أحد مثل العراقي كنعان مكية.
يظن الناس أن الاحتلال خبر في صحيفة، أو مشهد في نشرة إخبارية. لكنه أقسى امتحان ممكن في حياة وتاريخ الشعوب.
رعت الكويت هذا العام مؤتمراً لإعادة إعمار العراق. وقد مضت عليّ 6 سنوات غائباً عنها. وصلت بعد انقشاع العاصفة في جو صاف وصاح. ومنذ 1963 إلى اليوم، هذه أكثر مرة أرى الكويت في مثل هذا العمار. نضوة حصان وخرزة زرقاء في هذا العالم العاصف.