عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

الصين ودبلوماسية «دفتر الشيكات»

عندما انتهت قمة منظمة التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (آبيك) بالفشل يوم الأحد الماضي، وعجزت عن الاتفاق على بيان ختامي لأول مرة، كان السبب الرئيسي هو الصراع الأميركي الصيني على النفوذ والحرب التجارية المحتدمة بينهما. لكن اللافت هذه المرة هو الجدل الذي أثير حول سياسة القروض الصينية للدول النامية، أو ما يسميه البعض بـ«دبلوماسية مصيدة الديون».
نائب الرئيس الأميركي مايك بنس الذي مثل بلاده في القمة تطرق إلى هذا الأمر مُخصِصاً جزءاً من وقته للهجوم على ما وصفه بدبلوماسية «دفتر الشيكات» الصينية التي قال إنها «غير شفافة»، متهماً بكين بإغراق شركائها في الديون وفرض قيود عليهم والتأثير على استقلالهم. كذلك كانت هناك إشارات إلى قضية سريلانكا التي عندما عجزت عن سداد خدمة ديونها البالغة نحو 8 مليارات دولار للصين، اضطرت في وقت سابق من العام الحالي للتنازل عن سيادتها عن ميناء على المحيط الهندي أنشئ بقرض صيني، ووقعت اتفاقية تعطي بمقتضاها حق استخدام الميناء لفترة 99 عاماً للصين. الأمر الذي أثار قلق دول المنطقة، خصوصاً الهند المنافس الكبير لبكين؛ لأن الميناء يمكن أن يستخدم للسفن العسكرية والتجارية الصينية على السواء.
في هذا الإطار تردد أيضاً أن حكومة المالديف مقابل ديونها المتراكمة أعطت الصين حق استخدام 16 من جزرها الصغيرة. لكن الطرف الذي ربما يكون معنياً أكثر من غيره بهذا الأمر هو الدول الأفريقية التي تتوالى التحذيرات من أن عدداً منها ربما يسقط في فخ الديون المتراكمة للصين ويضطر لتسليم منشآت حيوية كالمطارات أو المواني لبكين بعقود «إيجار» طويلة الأمد، على غرار ما حدث لسريلانكا.
من الدول التي تدور اليوم أسئلة حول حجم الديون الصينية فيها السودان ونيجيريا وزامبيا وأنغولا وجنوب السودان وأوغندا وغانا والكونغو والكاميرون. وقد أثيرت ضجة واسعة في زامبيا خلال الشهرين الماضيين تردد صداها في القارة الأفريقية، عندما نشر على نطاق واسع أن الصين ستسيطر على مطار كينيث كاوندا وشركة الكهرباء الوطنية في زامبيا بسبب الديون المتراكمة. وعلى الرغم من أن الحكومة الزامبية نفت بشدة هذه التقارير فإن التكهنات استمرت، مثيرة مزيداً من الأسئلة حول دبلوماسية الديون الصينية.
في منتدى التعاون الصيني الأفريقي الذي انعقد في سبتمبر (أيلول) الماضي، أعلن الرئيس الصيني شي جينبينغ أن بلاده سترصد 60 مليار دولار للتمويل في أفريقيا خلال الثلاث السنوات المقبلة سيخصص معظمها في شكل قروض ميسرة أو معفاة من الفوائد أو اعتمادات مالية. وأشار في هذا الصدد إلى أن الصين التزمت بتعهداتها السابقة في قمة جوهانسبيرغ عام 2015 بإنفاق 60 مليار دولار للتمويل أيضاً في أفريقيا.
الصين حاولت في ذلك المنتدى الرد على الاتهامات الموجهة لها بأنها «تأخذ أكثر مما تعطي» في أفريقيا، وتستخدم «مصيدة الديون» لتوسيع نفوذها أو للاستحواذ على موارد ومنشآت حيوية. لذلك شددت على عناوين مثل التعاون، والمصالح المتبادلة، ودعم التنمية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، كما أشارت إلى أن معظم الأموال المرصودة للتمويل في أفريقيا للسنوات الثلاث المقبلة ستكون في شكل قروض ميسرة أو بلا فوائد، أو في شكل هبات. فالصين تعرف أن توسعها في أفريقيا بات مصدر إزعاج للغرب، وأن هناك كثيراً من الأصوات الغربية بدأت ترتفع، مُطالِبة حكوماتها باستراتيجية؛ للتصدي لهذا التوسع في القارة الأفريقية الغنية بالموارد، والمهمة كسوق ناشئ.
استخدام الديون كسلاح في العلاقات الدولية، ليس أمراً جديداً بل لعبة قديمة قِدَم الصراع بين الأمم، والغرب بالتأكيد ليس بريئاً في هذا المجال. فقبل دخول الصين إلى حلبة المنافسة على النفوذ، عانى كثير من الدول النامية في أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية من مصيدة الديون الغربية ودفعت ثمناً باهظاً على حساب استقرارها السياسي والاقتصادي، وعلى حساب التنمية فيها.
اليوم تكرر الدول الأفريقية أخطاءها الماضية مع الصين، وتركض نحو بكين للحصول على قروض، توجه الكثير منها إلى مشاريع البنى التحتية، ويبدد قسم منها في الفساد المستشري، ويذهب القليل نحو المشاريع الصناعية والزراعية التي تدعم التنمية الحقيقية في هذه الدول. ودفاعاً عن سياساتها في هذا المجال تتذرع بعض الحكومات بأنها لا تتمكن من الحصول على التمويل بسهولة من الدول والمؤسسات الغربية، وأنها حتى إذا حصلت على هذا التمويل فإنه «يأتي مشروطاً» بجملة من الإجراءات الاقتصادية والتقشفية، والمطالبة بانفتاح سياسي أحياناً.
الصين في المقابل لا تسأل الدول النامية التي تستثمر فيها عن سجلها في حقوق الإنسان، ولا تحاضرها عن «القيم الديمقراطية»، بل تسوق أمامها نموذجها التنموي القائم على نظام الحزب الواحد، وحكومة مركزية قوية تسيطر على كل شيء، من الأمن إلى الاقتصاد، ومن الإعلام إلى الرياضة. هذا الأمر يناسب الكثير من الأنظمة في العالم النامي التي تجد إغراء لا يقاوم في عروض المساعدة أو الاستثمار الصينية، ولا سيما أن بكين لا تتردد في الاستثمار في مناطق النزاع وتدفع بفنيّيها وعمالها إلى أي مكان لتنفيذ المشاريع.
سياسات الاستثمار والقروض الصينية في أفريقيا وغيرها من الدول النامية ليست بالتأكيد شراً مطلقاً ولا خيراً مطلقاً، وإذا كانت الصين تسعى إلى تعزيز مصالحها الاقتصادية والسياسية، وهو حقها، فإن المسؤولية الحقيقية تقع على عاتق الحكومات الأفريقية في كيفية توظيف أو تبديد هذه الاستثمارات والقروض، وفي توجيهها لمصلحة شعوبها ولتحقيق التنمية، أو استخدامها في مشاريع مشكوك في جدواها، ويثار كثير من شبهات الفساد حولها. فالصين لا تدير جمعية خيرية لمصلحة الدول الفقيرة، بل تستخدم أموالها من أجل بسط نفوذها وتحقيق غاياتها في الاستفادة من موارد هذه الدول.