خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

ما أحلى العفو!

في أيامنا هذه، أصبح المسؤولون ملتزمين بالأنظمة والقوانين والاعتبارات الدولية بما حد من حريتهم في التعامل مع الخارجين عن القانون. بيد أن الأمر لم يكن كذلك بهذا الشكل فيما مضى، فتمتع القائمون بالأمر والحل والعقد بقسط كبير من الحرية برزت من خلاله فضيلة العفو عند المقدرة التي أصبحت من أجمل شمائل الحكام التي اعتز بها العرب. وقد وردت من ذلك حكايات كثيرة على اختلاف درجاتها من المصداقية. ولكنها جميعاً تؤكد مدى الاعتزاز بالعفو في معاملة المقصرين في تاريخنا. لا أدل على ذلك من حكاية إبراهيم بن المهدي الذي خرج على الخليفة المأمون. عفا عنه فقال: والله ما عفا عني المأمون تقرباً لله تعالى، ولا صلة الرحم ولكن له سوق في العفو يكره أن تكسد بقتلي!
روى يزيد بن مزيد فقال: أرسل إلي الرشيد ليلاً فأوجست منه خيفة. فقال لي: أنت القائل أنا ركن الدولة والثائر لها والضارب أعناق بغاتها؟ أي ركن وأي ثائر أنت؟ قلت: يا أمير المؤمنين ما قلت هذا. إنما قلت أنا عبد الدولة والثائر لها. فأطرق وجعل ينحل غضبه عن وجهه ثم ضحك. فقلت أحسن من هذا قولي:

خلافة الله في هارون ثابتة
وفي نبيه إلى أن ينفخ الصور
فقال: يا فضل أعطه مائتي ألف درهم قبل أن يصبح.

ومن حكايات العفو الأقرب إلى الظرف والتفكه ما روي عن زياد بن أبيه حين أمر بضرب عنق رجل. فقال: أيها الأمير إن لي بك حرمة. قال: وما هي؟ قال الرجل: إن أبي جارك في البصرة. قال: ومن أبوك؟ قال: يا مولاي إني نسيت اسم نفسي فكيف لا أنسى اسم أبي؟ فرد زياد كمه على فمه واستغرق في الضحك وعفا عنه.
وتغيظ عبد الملك بن مروان على رجل فقال: والله لئن أمكنني الله منه لأفعلن به كذا وكذا. فلما صار بين يديه قال له ابن حبوة، أحد حاشيته: يا أمير المؤمنين قد صنع الله ما أحببت فاصنع ما أحب الله (أي العفو)، فعفا عنه وأمر له بصلة.
نلاحظ في معظم حكايات العفو الأثر الفعال لوقع الكلمة البليغة على الحاكم، مما هو من خصائص العرب. ومن ذلك ما جرى للحجاج عندما أمر بضرب رقاب أصحاب ابن الأشعث. جاءوا له برجل من بني تميم فقال «والله يا حجاج لئن كنا أسأنا في الذنب ما أحسنت أنت في العفو». فقال الحجاج: أف لهذه الجيف؟ أما كان فيهم من يحسن الكلام مثل هذا؟ وعفا عنه وأخلى سبيله.
وأمر الحجاج أيضاً بقتل رجل فقال: «أسألك بالذي أنت غداً بين يديه أذل موقفاً مني بين يديك، ألا عفوت عني؟» فعفا عنه.