بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

السيدة تستقوي بالشعب

أخيراً، لم تجد تيريزا ماي بُداً من العودة إلى الشعب. بصرف النظر عن الاتفاق مع سياسات رئيسة حكومة بريطانيا، أو الاختلاف معها، الحق يوجب الإنصاف، ومن المنصف لسيدة المنزل رقم 10 بشارع «داوننغ ستريت» اللندني، مقر صنع القرار البريطاني، القول إنها أحسنت صنعاً إذ قررت الاستقواء بالشعب في التعامل مع معارضي خطتها، في ما يتعلق بمستقبل العلاقة بين بلدها وبين بقية أعضاء الاتحاد الأوروبي، بعد دخول قرار الطلاق من بروكسل، حيز التنفيذ، اعتباراً من يوم التاسع والعشرين من شهر مارس (آذار) المقبل. صحيح أنه لا شيء يضمن نجاح رئيسة الحكومة في حشد ما تحتاج إليه من دعم شعبي للبرنامج المُقترح من جانبها، خصوصاً في ضوء حقيقة أن حجم المعارضة لها ضخم، نسبياً، ويضم ساسة بارزين داخل حزب المحافظين الذي تحكم باسمه، يؤازرهم سياسيون لكلٍّ منهم ثقله المُهم في صفوف بقية الأحزاب: «العمال»، و«الديمقراطيون الأحرار»، و«الوطني الاسكتلندي»، ثم «الديمقراطي الوحدوي» -وهو الحزب الآيرلندي المتحالف معها حالياً في التشكيل الحكومي- إنما يبقى أن مجرد اتخاذ قرار التوجه المباشر إلى البريطانيين، وطلب إسنادهم لبرنامج تيريزا ماي، هو في حد ذاته خطوة في الاتجاه الصحيح، بصرف النظر عن النتائج.
ليس جديداً أن تلجأ حكومات الدول الديمقراطية إلى الاحتكام للناس بعدما يتعقّد وضعٌ ما ويصعب التعامل معه بلا تفويض واضح الحسم، يعطي الجالس في موقع الحكم فرصة اتخاذ القرار الصائب، استناداً إلى تأييد نابع من تفهم المعنيين بتبعات ذلك القرار، أي الغالبية العظمى من الناس أنفسهم. تيريزا ماي لم تذهب بعيداً بحيث تطلب تنظيم استفتاء شعبي جديد بشأن المضي قدماً في مشروع «بريكست»، أو الانفضاض عنه كلياً. وهي لم تمضِ حتى في طريق الاستفتاء شعبياً على خطتها، التي أثارت جدلاً، وأحدثت شروخاً داخل حزبها، بل وفي صفوف حكومتها، إنما اختارت مخاطبة الشعب في رسالة عبر صحف الأحد الماضي ضمّنتها أربعين سبباً عدّتها كافية لإقناع غالبية البريطانيين بمساندة البرنامج المُقترح لإتمام خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بعدما حظي بموافقة زعماء بقية دول الاتحاد في قمة بروكسل.
نهار أول من أمس (الاثنين)، واجهت تيريزا ماي عاصفة هوجاء تحت قبة مجلس العموم، انتفض خلالها بعضٌ من أقرب حلفاء الأمس ضدها، بينهم وزراء سابقون في حكومتها حتى أمس قريب، ولم يتردد بعضهم في تسخيف برنامجها، الذي تأمل أن تحصل على تأييد له عندما يُدعى النواب للتصويت عليه يوم الحادي عشر من الشهر المقبل، وهو أمر ليس من السهل تصوّر أن يتحقق، خصوصاً أن معارضيها يضمون عدداً من الساسة الطامحين إلى إزاحتها من زعامة الحزب، ومن منصب رئاسة الوزراء، بنيّة خلافتها. علامَ تراهن السيدة ماي، إذن، في توجيه نداء مباشر إلى البريطانيين كي يؤيدوا برنامجها؟
الأقرب للمنطق هو القول إن السيدة -التي شاءت لها الأقدار، بلا سابق طموح من جانبها، تسلّم موقع اتخاذ القرار بعد تنحي ديفيد كاميرون (2016) من رئاسة الحكومة، بسبب فشل برنامج حملته الداعي لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي- كانت تعرف مدى ضعف موقفها سواء داخل حزبها، أو في مواجهة أحزاب المعارضة داخل مجلس العموم، لذا من الواضح أن اختيارها المراهنة على دعم شعبي مباشر، أتى في سياق تجاوز كل نائب معارض لها في البرلمان عبر التواصل مع الناخب مباشرةً. غير أن هذه المراهنة تبقى غير مضمونة النتائج، ذلك أن نواب مجلس العموم، بقدر ما يهمهم إرضاء ناخبيهم، قدر ما أنهم يتصرفون، غالباً، وفق قناعاتهم الذاتية أيضاً.
معركة تيريزا ماي هذه، المستمرة منذ تسعة عشر شهراً، أي منذ بدء تعقيدات التفاوض مع قيادات الجهاز الإداري للاتحاد الأوروبي ببروكسل، تستحضر تساؤلاً يمكن توجيهه إلى ساسة في مناطق عدة من الأرض، تتنازعهم خلافات بينهم تؤثر على واقع الناس ومستقبل شعوبهم، كما هو وضع الخلاف المُفجع بين حركة «حماس» وحركة «فتح»، في فلسطين: لماذا لا يجرّب هؤلاء الساسة أسلوب اللجوء المباشر إلى المعنيين بتبعات صراعاتهم، وفشل جولات تفاوض التصالح بينهم، جولة إثر جولات؟ ما المانع من سؤال أهل قطاع غزة تحديداً، والفلسطينيين في مناطق السلطة الوطنية عموماً، عما يريدون من زعامات كلتا الحركتين؟ أم تُرى أن توقع جواب صادم تصْدع به الغالبية العظمى، هو الذي يقف، في الواقع، حائلاً دون الرجوع للناس؟