فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

جرائم «النصرة» تحرّض العالم ضد إدلب

لم يكن وقف الهجوم العسكري على إدلب صدفة، أو نتيجة نقص إمكانات أو بسبب صحوة ضمير من جانب النظام وإيران المعاديين للشعب السوري، إنما كان نتيجة ثلاثة عوامل توافقت، وأدت إلى وقف الهجوم؛ أولها خروج سكان إدلب وجوارها في أغلب أرياف حلب وحماة واللاذقية في مظاهرات سلمية واسعة، تؤكد الطابع المدني والسلمي لثورة السوريين، وتأكيد حقهم في حياة ومستقبل مختلفين عبر استعادة أجواء أشهر الثورة الأولى، التي سبقت التسليح والعسكرة والأسلمة والتطييف. والعامل الثاني، هو تأكيد انفصال الحراك الشعبي عن الجماعات المسلحة لا سيما الجماعات الموصوفة بـ«الإرهاب والتطرف»، وفي مقدمتها «هيئة تحرير الشام»، التي تشكل «جبهة النصرة» عمودها الفقري ومن يواليها علناً أو سراً من التشكيلات الإسلامية المسلحة، والعامل الثالث بروز توافقات إقليمية ودولية، رغبت في تجنيب المنطقة قتلاً وتهجيراً ودماراً غير مسبوق بانتظار نضوج فرصة لحل سياسي، يمكن أن يكون مقبولاً من أكثرية الأطراف الداخلة والمتدخلة في الصراع السوري.
وإذ عملت تلك العوامل على وقف الهجوم المدمر على إدلب، فقد تركت المنطقة في مواجهة صراعات داخلية بين طرفين أساسيين؛ الحراك المدني والأقربون إليه من جماعات سياسية ومدنية وعسكرية من جهة، والتشكيلات الإرهابية المسلحة وعلى رأسها «هيئة تحرير الشام» وعصابات الجريمة المنظمة بما فيها خلايا نظام الأسد و«داعش» النائمة من جهة ثانية.
ولأن عمل الحراك المدني والأقربين إليه على تأكيد وجوده وأهدافه في ترسيخ العمل المدني وتطويره، والحفاظ على التهدئة وصولاً إلى حل سياسي مقبول بوسائله وإمكاناته الضعيفة في ظل دعم إقليمي ودولي محدود، فإن الطرف الثاني ممثلاً بالهيئة وأخواتها، ذهب إلى أقصى حدود التصعيد وإثارة الفوضى، مستغلاً إمكاناته وقدراته العسكرية والمادية، ليس فقط في تعزيز سيطرته على إدلب وجوارها، وإنما أيضاً في ضرب الحراك المدني وتدميره وتصفية كوادره، وإضعاف حاضنته الشعبية والسياسية، وكان الأبرز في مسلسل سياساتهم ثلاثة محاور؛ أولها تأكيد طابع التشدد والتطرف في مظاهر الحياة العامة لا سيما في المجالين الديني والاجتماعي، والثاني متابعة نهجهم في إشاعة الفوضى ومواصلة الخروقات والاختلالات الأمنية، والتعدي على المواطنين بسبب ومن دون سبب، والثالث تكريس الانقسامات والصراعات السياسية والعسكرية في واقع المنطقة وسكانها.
وسط تلك السلة من سياسات جماعات التطرف والإرهاب، تلاحقت عمليات «هيئة تحرير الشام» وأخواتها في ملاحقة الناشطين المدنيين والإعلاميين وكوادر المعارضة السياسية والتضييق عليهم لمنعهم من القيام بأي نشاط، وفي حال عدم استجابتهم فإن نصيبهم الاعتقال كما حدث للناشط ياسر السليم، أو الاغتيال كما في حالة الناشطين رائد الفارس وحمود جنيد، فيما كانت تتواصل عملياتهم «الأمنية» ضد من يسمونهم «رموز التسويات»، علماً أن «هيئة تحرير الشام» وهيكلها الأساسي من «جبهة النصرة»، كانت أول من عقد التسويات مع نظام الأسد وحلفائه، وهو صاحب العدد الأكبر مما تم فيها في السنوات الأخيرة، وشملت العمليات اغتيال بعض ما تبقى من قادة وكوادر سابقين في الجيش الحر، وترافق ذلك مع عمليات خطف لشخصيات اجتماعية واقتصادية بهدف طلب الفدية، التي صارت بين وسائل تمويل «هيئة تحرير الشام» وعصابات الجريمة المنظمة، ومصدر ثراء لمنتسبيها ولشخصياتها القيادية على السواء.
وتجاوزت الهيئة وأخواتها ما سبق إلى تكريس الانقسام والتشظي الإداري في المنطقة سواء عبر إقامة مجالس محلية موازية من أنصارها، أو عبر الحفاظ على ما يسمى «حكومة الإنقاذ» التي شكلتها «هيئة تحرير الشام» في مواجهة الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف الوطني، ودفعت حكومة الإنقاذ لتنفيذ سياساتها كما في قرار «لجنة الغنائم» القاضي بمصادرة أملاك المسيحيين من سكان إدلب لتعميق الانقسامات الدينية، والسيطرة على مخيمات الأرامل في إدلب لمنع المنظمات الداعمة من تقديم المساعدات لأهالي تلك المخيمات، كما عززت بقاء حالة صراعها المسلح مع بقية التشكيلات المسلحة الموجودة في إدلب وجوارها، ونقضت الاتفاقات التي تم التوصل إليها بغية الخروج من واقع الصدامات المسلحة والفلتان الأمني، التي تزيد من ضعف المنطقة في مواجهة تحالف نظام الأسد مع الإيرانيين والروس، ما يسهل عليهم اقتحام المنطقة والسيطرة عليها عند قرارهم الهجوم عليها.
خلاصة الأمر فيما قامت وتقوم به «هيئة تحرير الشام» وأخواتها من جماعات التطرف والإرهاب وعصابات الجريمة المنظمة وخلايا «داعش» والنظام النائمة في إدلب وجوارها، أنها تسعى إلى تكريس وجود القوى المتشددة المتطرفة، وتأكيد هيمنتها السياسية والميدانية، بما يعنيه من ضرورة التفاهم معها من جانب الأطراف الأخرى في حالة السعي إلى تفاهمات أو حلول ما، تتصل باحتمالات الحل ومستقبل الصراع، وهي تتناسى أن هذا الوضع يؤكد مقولة حلف النظام إن إدلب وجوارها بؤرة لجماعات التطرف والإرهاب، وإنه لا بد من اقتحامها في إطار الحرب على الإرهاب وتصفية جماعاته.
لقد استغل النظام والإيرانيون ما يتواصل من جرائم الهيئة وأخواتها في المنطقة، لإطلاق اتهاماتهم بصدد جريمة الهجوم الكيماوي الأخير في حلب، ولم يكتفِ بإعلان أن الهجوم تم من إدلب، إنما اتبعه الطيران الروسي بهجمات واسعة ضد أهداف في إدلب، قد تكون تقريباً لموعد هجوم أكبر على إدلب وجوارها في المرحلة المقبلة.