د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

ليبيا... هوية مرفوعة الرأس

الهوية الليبية ليست ضائعة أو مفقودة أو مختطفة ولا تائهة، فهي لا تعاني من التفكك، كما يتوهم البعض، وإن كانت تأثرت كغيرها بعدة عوامل خارجية وأخرى داخلية. منها إذكاء النعرات القومية والقبلية والمناطقية والفكرية حتى الدينية، التي لعب عليها تيار الإسلام السياسي، للعبث بالهوية الليبية ومحاولة تمزيقها، رغم كون المجتمع الليبي مسلماً 100 في المائة، ورغم أن التنوع الثقافي الليبي لا تعيق مكوناته الهويةُ الليبية، التي يشكّل العرب أكثر من 96 في المائة منها، «والدستور ينبغي أن يراعي هذا جيداً من أن هوية المجتمع الليبي عربية إسلامية صرفة مرفوعة الرأس»، وبالتالي لا يمكن القفز على هذه الحقيقة وتجاهلها، تحت أي مسوغ كان، ومن دون أي مجاملة.
فالهوية بأبعادها الدينية والقومية والجغرافية المختلفة، التي تشكلت عبر ميراث طويل من التاريخ جمعته الجغرافيا، تشكل الهوية السياسية لليبيا اليوم، ولا يمكن انتزاعها أو محوها، أو تشويها، رغم ما عانته من محاولات الاستيطان المختلفة عبر العصور، التي انتهى أغلبها بالفشل، مثل التوطين اليهودي زمن الاستعمار العثماني، والاستيطان الإيطالي، الذي حاول طمس الهوية الليبية، و«طلينة» السكان المحليين، واعتبار الليبيين مواطنين ورعايا «إيطاليين» من الدرجة الثانية.
وكانت هناك أيضاً محاولات لتوطين إخوتنا الأكراد من قبائل هماوند الكردية. الهوية الليبية تستمد شخصيتها أساساً من الأمة العربية والإسلامية وتعتبر امتداداً طبيعياً لها، سواء من خلال جغرافيا المحيط أم من خلال التاريخ الضاربة جذوره لآلاف السنين، ولا يمكن اختزالها. كما تتمثل قوتها في النسيج الاجتماعي المتماسك، الذي عجزت عن اختراقه أي محاولات خبيثة لتفكيكه، وبالتالي «تيهان» الهوية الوطنية.
لكن المشكلة الآن تكمن في محاولات الإسلام السياسي، الكاره والحاقد على العروبة، الذي يحاول اختطاف الهوية الليبية، وتشكيل هوية سياسية، جلب فيها رفقاءه في كهوف جبال تورا بورا بملابسهم ولهجاتهم، ليعبث بالهوية الشخصية ثم السياسية لليبيا، ولكنه فشل فشلاً كبيراً، لكون المجتمع الليبي قبلياً من الدرجة الأولى، فصعب عليه اختراق القبيلة حتى استحداث قبيلة لنسل سكان كهوف تورا بورا!
ليبيا تشكلت عبر ميراث من السنين، يصعب اختراقه بعبث سياسي، فلا يمكن إيجاد هوية ليبية بديلة، لمجرد كره جماعة «تنظيم البنا وقطب» فكرة القومية العربية منذ زمن عبد الناصر، من خلال ممارسة الإبادة الثقافية حتى العرقية للهوية الليبية من خلال إذابتها في هوية ينتمي إليها التنظيم الدولي الضال، الذي لا يعترف بالجغرافيا الوطنية.
من المكونات والتنوعات الثقافية الليبية الإمازغن (الأمازيغ)، فعلى الرغم من صغر حجمهم السكاني فإنهم مكون من مكونات الوطن وفسيفسائه المتنوعة، حيث يجمعهم حق المواطنة الكامل لجميع أبناء الوطن في الدستور، دون النظر إليهم كأقلية تسكن الوطن، ولكن حين تطالب «بعض» النخب الأمازيغية بمطالب خاصة، وترفع «علماً وراية» خاصة بها، هي في الأصل شعار «لوطن إثني» (تامزغاء) أي أرض الأمازيغ، وزعمهم أن العرب مجرد «غزاة»، لا فاتحون، بدلاً من العمل على التعايش، والعيش شركاء في الوطن، والحديث بمفهوم خصخصة الوطن، والنظر فقط إليه من خلال جغرافيا «تامزغاء Tamazight» وهو لفظ مستحدث، لا جذر لغوياً له في اللهجات الأمازيغية، رغم رسمه بخط «التيفناغ»، فقد استحدثه بعض «القوميين» الأمازيغ لمحاكاة القومية العربية، فظهر خطاب آيديولوجي مسيس مشحون بلغة إثنية، أنتج نهجاً ومعتقداً خاطئاً مملوءاً بالمغالطات التاريخية، التي لا تخدم منطق التعايش في وطن للجميع.
فجغرافيا ليبيا هيرودوت، ليست جغرافيا ليبيا ما بعد سايكس بيكو، فالمكان ليس هو المكان، ولا التاريخ، فليبيا زمن هيرودوت كانت تطلق على جزء من شمال أفريقيا، يشمل تونس والجزائر وجزءاً من ليبيا الحالية، بينما ليبيا بعد الحرب وسايكس بيكو ضمت إقليم برقة وفزان.
ورغم هذا فليبيا مهيأة لإقامة مجتمع مثالي وطن خالص لمواطنيه، دونما استثناء أو انتقاء تسوده الحرية والديمقراطية، وحقوق الإنسان والمجتمع المدني الديمقراطي، محاطاً ومحفوفاً بروح التآخي والتعايش من قبل الجميع، عرب وأمازيغ وتبو، بدلاً من محاكاة الوهم والجري خلف السراب. فمن غير المنطقي تغيير الديمغرافيا بعد مضي آلاف السنين، ما يعرقل الاندماج في الوطن، ضمن معيار حق المواطنة الكاملة للجميع، الضامن الحقيقي للاستقرار.
وتبقى أي محاولة للتقوقع في كيان إثني، والانفصال والتقوقع به، محاولةً بائسةً وضائعةً وتائهةً، ضمن كيان صغير، في وطن كبير يسع الجميع، ما لا يخدم الوطن أو أي طرف آخر، بل يجعل فئة منه تعاني أزمة هوية، وتفككها بين إخوة الدين والوطن.