خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

هكذا قالوا

التاريخ العربي وكتب التراث تغص بالحكايات عن ظلم الولاة والقضاة وشكاوى الناس منهم إلى الخليفة والسلطان، ومحاولات الخلفاء معرفة ما يجري من أحوال الأقاليم والأمصار. نسب الكثير من ذلك إلى المأمون، ربما لما اشتهر به من حكمة وذكاء، أو بالأحرى تملقاً من الكتاب.
وقد ذكر أن أهل الكوفة عانوا الكثير من سوء حكم العامل المسؤول عنهم فقرروا إرسال وفد يعرض شكاواهم. فتوجه هؤلاء إلى بغداد ودخلوا مجلس أمير المؤمنين وقدموا مظالمهم إليه راجين منه إنقاذهم من ظلم هذا العامل. فأجابهم المأمون بأن ما لديه من معلومات تجري بعكس ذلك. «ما علمت في عمالي أعدل ولا أقوم بأمر الرعية وأعود بالرفق منه بالرفق عليهم. فقال رجل من الموفدين: (يا أمير المؤمنين، ما أحد أولى بالعدل والإنصاف منك، فإذا كان بهذه الصفة فعلى أمير المؤمنين أن يوليه بلداً بلداً حتى يلحق كل بلد من عدله مثل الذي لحقنا ويأخذ بقسطه منه كما أخذنا)». ففهم المأمون حقيقة شكواهم وصدقها فعزل ذلك العامل منهم.
وفي حكاية أخرى، روي أن المأمون سمع بظلم أحد ولاته وبجوره في الحكم، فأراد أن يتحقق من واقع الأمر فبعث أحد من يأتمنهم في مثل ذلك ليرى بنفسه ويطلعه على الحقيقة، فتوجه الرجل إلى المدينة المطلوبة وتظاهر بأنه جاء وراء تجارة لنفسه. فأكرمه الوالي وأحسن إليه. ثم التمس منه أن يحرر توصية بما شاهده ليبعث بها إلى الخليفة وينيره بالأحوال الطيبة للولاية. وكان السؤال محرجاً، فلم يشأ الضيف أن يسيء للمضيف بالامتناع، ولا في أن يكتب للخليفة بما هو مخالف لانطباعه. ولكنه كان رجلاً بارعاً في الدبلوماسية وحسن المخلص فأخذ القلم وكتب للمأمون: «أما بعد، فقد قدمنا على فلان فوجدناه آخذاً بالعزم، عاملاً بالحزم. قد عدل بين رعيته وساوى في أقضيته. أغنى القاصد وأرضى الوارد وأنزلهم منازل الأولاد. وأذهب ما بينهم من الضغائن والأحقاد وعمر منهم المساجد الدائرة. وأفرغهم من عمل الدنيا وشغلهم بعمل الآخرة. وهم في ذلك داعون لأمير المؤمنين يريدون النظر إلى وجهه والسلام».
ما أن تسلم الخليفة هذه الرسالة حتى بادر إلى إعفاء الوالي من عمله... استغرب القوم من ذلك، فشرح لهم المأمون مقصد الكاتب. وقال: «معنى قوله أخذ بالعزم، أي إذا عزم على ظلم أو جور فعله في الحال. وقوله: قد عدل بين رعيته وساوى في أقضيته، أي أخذ كل ما معهم حتى ساوى بين الفقير والغني. وقوله: عمر منهم المساجد الدائرة وأفرغهم من عمل الدنيا وشغلهم بعمل الآخرة، يعني أن الكل صاروا فقراء لا يملكون شيئاً من الدنيا لينشغلوا بها. ومعنى قوله: يريدون النظر إلى وجه أمير المؤمنين، أي ليشكوا حالهم إليه عما نزل بهم من جور».
وهذه في رأيي قطعة من التملق للخليفة دأب الأدباء على سبك أمثالها من باب مناصرة الخليفة المنتصر في النزاع بين الأخوين الأمين والمأمون.