عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

لاعب كرة يتفوق على «أمازون» و«ستاربكس»!

عندما قرأت الخبر، لم أصدق لوهلة، وانطلقت أبحث عن مصادر أخرى، وظني أنني سأكتشف ما يثبت أن القصة من الأخبار المفبركة التي تعج بها «الإنترنت» ووسائل التواصل الاجتماعي. كيف يُعقل أن لاعب كرة قدم في الدوري الإنجليزي يدفع ضرائب أكثر مما تدفعه الشركتان العملاقتان «أمازون» و«ستاربكس» في بريطانيا؟!
ما إن وضعت اسم لاعب وسط فريق تشيلسي الإنجليزي، نغولو كانتي (27 عاماً)، على محرك البحث «غوغل»، حتى تدفقت الموضوعات التي تتناول عقده الجديد الموقّع قبل أيام مع ناديه، والذي قيل إنه سيدفع بمقتضاه ضرائب أكثر مما تدفعه الشركتان الأميركيتان عن نشاطاتهما التجارية الكبيرة في بريطانيا. كان الخبر منشوراً في عدد من الصحف الإنجليزية والمواقع، وكان لتناوله بهذه الطريقة مغزى. فـ«أمازون» و«ستاربكس» واجهتا مع «غوغل» عاصفة من الانتقادات في الصحف وفي البرلمان البريطاني خلال السنوات الماضية بسبب حجم الضرائب القليلة التي تدفعها عن نشاطاتها التجارية في هذا البلد. ووصل الأمر إلى حد توجيه أسئلة إلى الحكومة أمام البرلمان عما عده البعض «فضيحة»، ووصفه آخرون بالأزمة الأخلاقية. كذلك أخضعت لجنة برلمانية بريطانية مديرين من الشركات الثلاث للمساءلة بسبب ضجة الضرائب.
بعد تمديد عقده لخمس سنوات أخرى مع فريق تشيلسي سيحصل كانتي، الفرنسي من أبوين مهاجرين من مالي، على راتب أسبوعي قدره 290 ألف جنيه إسترليني، أي ما يزيد على 15 مليون جنيه سنوياً. ولأن اللاعب رفض مقترحات بتحويل راتبه إلى شركات خارج الحدود «أوفشور»، في أماكن تعد ملاذات ضريبية، وأصر على تسديد كامل التزاماته للضرائب البريطانية، فإنه سيدفع سنوياً 6 ملايين وسبعمائة ألف جنيه سنوياً كضرائب.
الصحف البريطانية فتحت باب الجدل عندما قارنت فاتورة ضرائب لاعب خط وسط تشيلسي ومنتخب فرنسا، مع ما تدفعه شركتا «أمازون» و«ستاربكس» لتوضيح المفارقة وتسليط الضوء على قضية تفادي شركات كبرى دفع «ضرائب عادلة»، من خلال أساليب تقلِّص بها دخلها الصافي في بريطانيا وبالتالي حجم ما يترتب عليها من ضرائب. «أمازون» مثلاً دفعت للخزانة البريطانية مليوناً وسبعمائة ألف جنيه عن أرباحها هنا التي بلغت العام الماضي 79 مليون جنيه. أما «ستاربكس» فقد ورد في عدد من التقارير المنشورة مع قصة كانتي أنها دفعت العام الماضي 6 ملايين ومائتي ألف جنيه ضرائب.
لكنّ صحيفة «الديلي ميرور» البريطانية نشرت خطاباً من مارتن بروك رئيس شركة «ستاربكس» في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا، يوضح فيه أن الشركة اتخذت عدة إجراءات لتعديل وضعها الضريبي، آخذةً في الاعتبار الملاحظات التي قُدمت خلال السنوات الأخيرة وأوجه القصور في التزاماتها الضريبية في السابق، وبذلك ارتفعت مساهمتها الضريبية. وأشار بروك إلى أن حسابات الشركة توضح بجلاء أنها دفعت 13 مليوناً و700 ألف جنيه كضرائب العام الماضي، لافتاً إلى أن صحيفة «الفاينانشيال تايمز» سبق لها أن نشرت توضيحاً مماثلاً بشأن الضرائب التي تدفعها «ستاربكس» في بريطانيا. ونتيجة لخطاب بروك عدّلت بعض الصحف قصتها لتجعل المقارنة بين ضرائب كانتي و«أمازون» فقط، علماً بأن «ستاربكس» ظلت لسنوات طويلة لا تدفع أي ضرائب في بريطانيا أو تدفع ضرائب قليلة جداً.
الجدل الذي أثارته قصة كانتي أعاد إلى الأذهان الضجة الواسعة منذ سنوات حول الضرائب القليلة التي تدفعها شركات عملاقة عن نشاطاتها التجارية في بريطانيا، وهو الجدل الذي انتقل من وسائل الإعلام إلى البرلمان. وقتها سلطت الأضواء على «أمازون» و«غوغل» و«ستاربكس» وسط مطالبات بإجراء تحقيق موسع حول مسألة الضرائب، والضغط على الحكومة وعلى الشركات للوصول إلى صيغة تجعل المساهمة الضريبية أكبر، وذلك بإغلاق بعض الثغرات التي تسمح للشركات الكبرى بتقليص ضرائبها.
للتوضيح، فإنه لم تكن هناك اتهامات للشركات بالتلاعب الضريبي، فهي تستخدم ثغرات وأساليب قانونية لخفض فاتورتها الضريبية إلى أقصى حد ممكن، لكن الانتقادات كانت تتركز على مسألة الضرائب العادلة، والمسؤولية الاجتماعية من خلال المساهمة الضريبية، والتوزيع المنصف، لكي لا نقول العادل، للثروات.
وفي عصر العولمة فإن الجدل ليس مقتصراً على بريطانيا، بل يدور مثله في دول أخرى بشأن أرباح وضرائب العديد من الشركات العملاقة، التي تمارس أنشطتها في مناطق كثيرة حول العالم. فهناك شركات تتجاوز قيمتها السوقية الناتج القومي لدول. خذْ على سبيل المثال «آبل» التي أصبحت هذا العام أول شركة تبلغ قيمتها السوقية تريليون دولار، ولحقت بها بعد أسابيع «أمازون»، وهناك شركات أخرى في الطريق للالتحاق بهذا النادي، وفقاً لتوقعات أسواق المال الكبرى، مثل شركة «مايكروسوفت»، وشركة «ألفابت» المالكة لـ«غوغل». هذا بالطبع لا يشمل العدد الكبير من الشركات العملاقة الأخرى التي تقدر قيمتها بمئات المليارات من الدولارات.
نمو الشركات الكبرى يحمّلها مسؤوليات أكبر تتجاوز مجرد العمل لتراكم الأرباح لا سيما في وقت يتصاعد فيه الجدل حول قضايا الفقر، والتلوث البيئي وتغيرات المناخ، والضغوط على ميزانيات الرعاية الصحية والتعليم والخدمات الأخرى الأساسية. فحتى أواخر السبعينات كانت الشركات تدفع ضرائب عالية، ومع ذلك تنمو وتحقق أرباحاً كبيرة، وتنشط في الوقت ذاته للمساهمة في دعم مؤسسات التعليم أو الصحة، ومجالات الأعمال الخيرية التزاماً بمبدأ المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية تجاه المجتمعات التي تعمل فيها. منذ الثمانينات لا سيما في عهدي رونالد ريغان في أميركا، ومارغريت ثاتشر في بريطانيا، بدأ سباق لخفض ضرائب الشركات والأغنياء، ومعه الجدل المتصاعد حول عدالة النظام الضريبي وقضايا مثل المسؤولية الأخلاقية والمجتمعية لمواجهة الفجوة الآخذة في الاتساع بين الأغنياء والفقراء.
تكفي الإشارة هنا إلى التقرير الصادم الصادر في سبتمبر (أيلول) الماضي عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالتعاون مع «مبادرة أوكسفورد في الفقر والتنمية البشرية» الذي أورد أن هناك ملياراً و300 مليون إنسان تحت خط الفقر في 104 دول. صحيح أن الغالبية العظمى من هؤلاء يعيشون في دول فقيرة خصوصاً أفريقيا وجنوب آسيا، لكن الفقر موجود أيضاً في الدول الغنية بأرقام ليست هينة (41 مليون شخص يعيشون في فقر في أميركا، و24 مليوناً في بريطانيا، وفقاً للأرقام المنشورة). أضف إلى ذلك أن الفجوة بين الدول الفقيرة والغنية تزداد اتساعاً، ومعها تبرز قضايا الهجرة وحركة البشر، كما تتعقد الصورة بالنسبة إلى مستقبل العمل والتوظيف مع تطور الذكاء الصناعي وحلول الروبوتات المتزايد محل البشر في كثير من الصناعات والأعمال.
كل هذه الأمور تشكّل تحدياً أمنياً واقتصادياً وأخلاقياً للعالم، وتوضح جانباً من الأسئلة الصعبة التي تواجه الحكومات... وكذلك الشركات في عالم يزداد تشابكاً وتعقيداً.