إميل أمين
كاتب مصري
TT

رجل مفيد للأمة

في الحوار الذي أجراه بابا الأقباط تواضروس الثاني، مع الشقيقة «آراب نيوز»، وصفٌ لولي العهد الأمير محمد بن سلمان بأنه رجل مفيد للأمة، وهي رؤية تنويرية وتقدمية من رجل دين مسيحي مشرقي ربما لم تصدر من قبل على لسان أيٍّ ممن جلسوا على كرسيه، وهو يرى أن الأمير محمد بن سلمان إنسان منفتح يرى الحياة برؤية إيجابية، وأن جولاته وصولاته حول العالم في العامين الأخيرين مفيدة للأمة برمّتها، بقدر ما إنها نافعة للمملكة العربية السعودية، والأهم من هذا كله أنها تمضي في صالح بناء الإنسان، حسب تعبيره.
المقابلة المشوقة تستدعي تساؤلات كثيرة عن رجالات يستحقون بحقّ لقب صنّاع السلام، ويفتحون الباب واسعاً أمام جميع الأمم والشعوب للسلام، سلام القلوب والعقول، وسلام الأوطان والإنسان.
مثير حقاً شأن البابا تواضروس، فعلى الرغم من كونه قمة ورأس الكنيسة القبطية المصرية، وحامل تاريخ مدرسة الإسكندرية اللاهوتي عبر ألفي سنة، فإنه بوجهه الهاشّ الباشّ أبعد ما يكون عن عالم الدوغمائيات الجامدة وفَعَلَته، أولئك الذين يعتقدون أنهم مُلّاكٌ للحقيقة المطلقة دون سواهم في مشارق الأرض ومغاربها، وربما هذا ما قرّب المسافات الذهنية بينه وبين الأمير محمد بن سلمان، وبخاصة في زيارته الأولى للكاتدرائية المرقسية، مقر البابا، العام الفائت.
يتذكر الأقباط في مصر والمنتشرون خارجها بكثيرٍ من الاحترام والتقدير الكلمات الطيبة التي فاه بها وليّ العهد واصفاً بها قبط مصر وبطريركهم، وكيف أنه يعتبرهم فصيلاً وطنياً رفض ويرفض عبر التاريخ أي تصارع أو تنازع حول هويتهم المصرية قبل انتمائهم الديني، ولهذا كانوا وسيظلون حصناً حصيناً وجداراً متيناً في البناء التكتوني المصري، لا تفلّه مؤامرات الخارج، ولا تسحقه مناوشات الداخل.
عرف العالم العربي طوال أكثر من أربعين سنة بابا للأقباط سمّوه بابا العرب، فقد كانت مواقفه القومية مضرب الأمثال، وحين رحل البابا شنودة الثالث، شاءت الأقدار أن يجلس في موقعه وموضعه راهب متجرد آخر يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويجيد قراءة الأزمنة والأحداث بعين رؤيوية ثاقبة.
عُرف البابا شنودة بتعبيره «مصر وطن يعيش فينا، وليس وطناً نعيش فيه»، وحين أحرقت جماعة «الإخوان المسلمين» كنائس ودور ومتاجر ومباشرات الأقباط في أعقاب فض اعتصامَي رابعة والنهضة، في أغسطس (آب) 2013، على أمل إشعال الوطن طائفياً، قال تواضروس الثاني قولته الشهيرة والوطنية التي ستخلَّد كثيراً: «وطن من دون كنائس أفضل من كنائس من دون وطن»، وإنهم «إن أحرقوا الكنائس فسوف نصلّي في المساجد، وإن أحرقوا الكنائس والمساجد، سنصلي معاً في شوارع المحروسة»، وقد كانت هذه الصورة مثار احترام وتقدير كبيرين من الأمير محمد بن سلمان في لقائه مع بابا الأقباط.
ينظر البابا تواضروس إلى المملكة نظرة ملؤها الاحترام الكبير والتقدير الوفير، فالسعودية في وجهة نظره ركيزة أساسية للأمن والاستقرار في المنطقة العربية وعلى المستوى الدولي بنفس القدر، ويرى أنها تسهم في مسارات ومساقات التنمية البشرية بشكل فعال ومؤثر، ولهذا لا يوفر تحيّته لتلك الجهود التي تحمل كثيراً من الأمل للذين يصفهم بالأشقاء في السعودية، في إشارة ولغة لا تخطئها العين لرجل متسامح ومتصالح مع الذات ومع الآخرين، وفي كلمات تليق بكرامة رجال الأديان الساعين للسلام في زمن الخصام، والمتجاوزين للجدران القائمة بين الأمم والشعوب، إلى السعي في طريق بناء الجسور وصون كرامة الكائن البشري وترقية الشعوب.
قبل بضعة أسابيع كانت نيران الكراهية تتوجه من جديد إلى صدور نفر من الأقباط المسالمين في زيارة لهم لأحد الأديرة في صحراء محافظة المنيا في صعيد مصر، وللمرة الثانية في نفس المكان، وقبل عامين كانت الكاتدرائية وأطرافها في القاهرة تشهد تفجيراً انتحارياً، وبعدها بأشهر قليلة - ومن أسفٍ - تعرضت كنائس في طنطا والإسكندرية لعمليات مشابهة أوقعت الكثير من القتلى والجرحى...
كان الرهان، ولا يزال، على شق الصف المصري وزرع العداوة والكراهية بين صفوف المصريين، مسلمين ومسيحيين، هؤلاء الذين عاشوا أربعة عشر قرناً معاً، عرفت أوقاتاً عسيرة، لكنّ إرادة الحياة والتعايش المشترك أوجدت ما هو أكثر من اليسر لتمضي سفينة المصريين إلى بر الأمان.
اعتُبر تواضروس الثاني، ولا يزال، صمام أمان وبابا بدرجة مواطن صالح وبامتياز، ولهذا يتكلم بصدق في حواره الأخير عن الألم الذي شمل المصريين جميعاً لا الأقباط فقط من جراء الهجمات التي استهدفت أبناءه الروحيين، لكن الرجل وبعقلية إبستمولوجية خلاقة، بعيدة كل البعد عن ضيق وتزمت الآيديولوجيات الحراقة والدوغمائيات المشتعلة، يدعو الجميع لإدراك أن هدف الأصوليين ليس الأقباط أنفسهم أو كنائسهم بل وحدة المصريين واتحادهم.
يسعى الرجل ليبسّط رؤية منصفة حتى وإن أغضب ذلك قطاعاً من أبنائه المدفوعين بالعاطفة لقياس الأشياء وإهمال إعمال العقل، ولهذا يصر على أن الإرهاب الأعمى يوجّه طعناته الغادرة إلى صدور شباب مصر عامة من مسيحيين ومسلمين، من القوات المسلحة والشرطة، بل وصل الأمر إلى حد استشهاد نحو ثلاثمائة مصلٍّ ومياه الوضوء على أجسادهم في مسجد الروضة بسيناء.
يثير البابا في حواره إشكالية تهجير المسيحيين من الشرق، على الرغم من أن المسيحية وُلدت ونشأت مشرقية، كأن لسان حاله يقول: إن مسلمي الشرق الأوسط هم الأكثر مسؤولية عن بقاء ونماء مسيحيي المنطقة، فوجودهم قبل الإسلام وبعده وفيه خير دليل على رحابة حضارة أشرقت على العالم بتعدديتها وقبولها الآخر، بل إن الأمر في عمقه العميق فلسفة قرآنية قبل أن يكون اجتهاداً بشرياً.
يتابع البابا تواضروس ما يسميها التطورات الإيجابية في المملكة والتي يقوم عليها خادم الحرمين الشريفين وولي العهد، والمفاجأة الكبرى إعلانه أنه سيقوم بزيارة قريبة للمملكة ليفتح الجسور الواسعة لإعادة فصل جديد من فصول الشرق، الأخلاق والإسلام السمح القابل للآخر الذي نادى به الأمير محمد بن سلمان من قبل.
أحلى الكلام: ما أجمل إقدام المبشِّرين بالسلام المبشِّرين بالخيرات.