فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

رئاسيات أميركية... في التأمل ما قد يفيد

من أجْل فسحة لبعض الوقت من ضوضاء واقعة الأنفاق التي أطلقها نتنياهو، بينما لبنان على شفير الهاوية الأسحق، ومن الطبعة الفرنسية بعد الطبعة البريطانية والطبعة البلجيكية من الأساليب الداعشية، وكذلك من قعقعة التهديدات التي تأتي من كل صوب، ولكنها لا تصيب ويحتار الأمر في شأن صانعيها...
وحيث إننا نعيش هذه الأيام مناسبة حزينة، تتمثل في رحيل جورج بوش الأب، الرئيس الواحد والأربعين في قائمة رؤساء أميركا، والذي هو عميد الرؤساء الأميركان لجهة العمر، كونه توفي يوم الجمعة، اليوم الأخير من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2018، عن 94 عاماً...
وحيث إننا كعرب في التاريخ العربي - الأميركي المعاصر نحلِّق في الفضاء الأميركي، نرتاح لمواقف بعض الإدارات عندما تبدأ، ثم لا تلبث الصدمات منها تتلاحق كما لا تلبث الوعود أن تصبح سراباً...
وحيث إننا على موعديْن لافتيْن في السودان الإنقاذي، ودواوين التحريريين المخضرمين في الجزائر.
إنني للحيثيات السالفة الإشارة إليها، وككاتب يعنيه الوقوف على صفات وأخلاقيات وشمائل الذين يصلون إلى رأس الهرم في الولايات المتحدة، ويطلب حكام عرب وأجانب ودهم، فيأخذون منهم أكثر بكثير من عطائهم، جمهورياً كان العم سام أم ديمقراطياً، أغتنم مناسبة رحيل الرئيس بوش الأب، وأُوجز ما تيسر من المعلومات عن الذين حكموا أميركا، وعددهم حتى رحيل عميدهم سناً، جورج بوش الأب، عن الرئاسة، 41 رئيساً. مع التوضيح أن هذه المعلومات مستقاة أصلاً من كُتب وصحف، ومن أوراق في أرشيفي الخاص، وكذلك من وثائق من تلك التي يُكشف النقاب عنها ويُسمح بنشرها، بعد ربع قرن من تاريخ الحدث. وهذا أمر غير مألوف خارج الولايات المتحدة ودول أوروبا.
وقبْل سرْد هذه المعلومات، يجدر بنا كعرب معرفة المواصفات التسع التي يجب أن تتوفر فيمَن يشغل رئاسة البيت الأبيض، وهي مع بعض الإيجاز: أن يكون على الأقل في الخامسة والثلاثين، وأقل من الخامسة والستين من العمر، ومقيماً في الولايات المتحدة لمدة أربع عشرة سنة. أن يكون أبيض، ومن أصل إنجليزي، ومحارباً قديماً، وبروتستانتياً، وألا يكون مطلَّقاً أو عازباً أو كاثوليكياً أو ثرياً ثراء فاحشاً، كما ألا يكون يهودياً أو قِسّاً أو امرأة أو ملحداً، وألا يكون من أصل بولندي أو إيطالي أو سلافي. هذا إلى جانب السمعة والمظهر والفصاحة والذكاء والاعتدال في وجهات النظر.
هل توفرت هذه الصفات في الذين ترأسوا على مدى قرنيْن، مع الإشارة إلى أننا هنا نقف عند بوش الأب، ولا نتطرق إلى الأربعة اللاحقين: بيل كلينتون، وبوش الابن، وأوباما، وترمب.
انحصر اهتمام الرئيس الأول جورج واشنطن، ابن الأسرة البورجوازية، في محاربة غارات الهنود الحمر، وكان يميل إلى الحياد في النزاعات بين دول أوروبا، وكذلك الرئيس الثاني جون آدامز الذي خَلَفه. بعدهما ترأس توماس جيفرسون، وعندما توفي كان مديوناً بمائة ألف دولار. ثم ترأس الرابع جيمس ماديسون، الذي نجح في عمليات عسكرية استهدفت دفْع الإنجليز شمالاً إلى كندا. أما الرئيس الخامس جيمس مونرو، فليس معروفاً لماذا أطلقت ليبيريا الدولة الأفريقية اسمه على عاصمتها «مونروفيا».
لولا ضغط والده الثري لما كان جون كوينسي بات الرئيس السادس للولايات المتحدة. أما الرئيس السابع أندرو جاكسون، الذي كان يكره الإنجليز لأنهم قتلوا والدته وأخويه أثناء حرب الاستقلال، فإنه شخصياً تعرَّض لمحاولة اغتيال بمسدس من مخبول «يعترض طريق وصوله إلى العرش الأميركي».
كان الرئيس الثامن مارتن فان بورين من أصل هولندي، وكان أول نائب رئيس يعود إلى الرئاسة عن طريق انتخابات عامة (تكررت الحالة مع بوش الأب الذي كان نائب الرئيس رونالد ريغان).
أقصر الرؤساء حُكماً في التاريخ الأميركي (كما حال بشير الجميل ورينيه معوض في لبنان) كان الرئيس التاسع وليم هاريسون، الذي توفي بعد ترؤسه بشهر، ليخلفه جون تيلور الذي كان في مزرعته بولاية فرجينيا، عندما جاءه مبعوث خاص لإبلاغه أنه بات الرئيس العاشر للولايات المتحدة. ثم خَلَفه الحادي عشر جيمس بولك، الذي خرج من الظل كما باراك أوباما في الزمن الحاضر. وما أصاب الرئيس التاسع أصاب الرئيس الثاني عشر زخاري تيلور، الذي توفي بالسكتة القلبية وهو في مكتبه بالبيت الأبيض.
وفي تاريخ رؤساء أميركا من طبَّق على نفسه قول أبي العلاء المعري، وهو الرئيس الثالث عشر ميلارد فيلمور، الذي سئم تكاليف السياسة قبْل انقضاء ولايته، ربما لأنه ثري أو خشية أن تودي به الرئاسة على نحو ما حصل للرئيس السلَف زخاري تيلور.
كان الرئيس الرابع عشر فرانكلين بيرس، جنرالاً ومتعصباً ضد الخمر، وترك للسياسيين حرية التصرف، فانتشر الفساد كما الحال هذه الأيام التي يعيشها لبنان ودول شقيقة. وأصاب القرف جيمس بوكانان (الرئيس الخامس عشر) من الحُكْم الذي سعى إليه طوال ربع قرن؛ لكنه بعدما انتهت ولايته، قال لخليفته الرئيس السادس عشر أبراهام لنكولن: «إذا كنتَ سعيداً لدخول البيت الأبيض قدْر سعادتي بالخروج منه، فأنت رجل محظوظ». وكانت ملاحظته في محلها؛ ذلك أن لنكولن الذي وقَّع وثيقة لتحرير العبيد لأسباب سياسية وليست إنسانية، جرى اغتياله بمسدس، وهو في «مسرح فورد» في واشنطن، بعد خمسة أيام من إعادة انتخابه لولاية ثانية.
بعد لنكولن، جاء دور بسطاء الرؤساء، وكان الرئيس السابع عشر أندرو جونسون، ابن عائلة فقيرة، وعمل خياطاً قبْل أن ينتسب إلى الجيش؛ لكن ذوي الثراء في الكونغرس أحاطوه باتهامات وحاولوا خلْعه، ليخلفه الثامن عشر يولسيس سبمسون، العسكري المحترف الذي استشرت العمولات والصفقات بين أعضاء بالكونغرس في عهده، وسكت عن ذلك طلباً لرضاهم. وبعدما خسر الانتخابات بات عاطلاً عن العمل، وتفرَّغ لكتابة مذكراته للعيش منها، كما حال هيلاري كلينتون وميشيل أوباما، أحدث كاتبات مذكراتهن عن الرئاسة وأحلامها وويلاتها.
على نحو ما حصل للرئيس اللبناني الخامس (الراحل سليمان فرنجية) الذي فاز على إلياس سركيس (الراحل) بفارق صوت واحد، حصل للرئيس التاسع عشر راثرفورد هيز، الذي عُرف بأنه إصلاحي، وهو عملياً رائد منْع التدخين، تلك الظاهرة المعمول بها بنسب متفاوتة في أيامنا هذه. ولقد اقتصر المنْع وكذلك منْع الخمر على البيت الأبيض. وكان أول رئيس بين الأربعين رئيساً، تحرسه قوات الاستخبارات، بعد تلقِّيه (وعلى ما هو مألوف في أيامنا هذه في لبنان) تهديدات بالقتل من مؤيدي المرشح الآخر صموئيل تيلدن، فقرر ألا يعيد ترشيح نفسه.
لم تنته محاولات القتل التي يتعرض لها الرؤساء، بدليل أن الرئيس العشرين جيمس غارفيلد قُتل بعد 199 يوماً من الترؤس، بعدة رصاصات من قاتل مخبول. هكذا قيل. وأما الرئيس الخلَف (الواحد والعشرون) تشستر آرثر، الذي بكى علناً سلَفه غارفيلد، فإنه ربما كرد فِعْل نفسي على النهايات المأساوية، بدأ يوكل معظم واجباته إلى مساعديه، ويخرج للتنزه في الهواء الطلق. وفي العام الأخير من ولايته أصيب بمرض ثم توفي، وقد بات رئيساً سابقاً، ليخلفه غروفر كليفلاند، الذي خلافاً لسادس الشروط الرئاسية كان عازباً عندما ترأس، وتزوّج وهو في البيت الأبيض، وتلك واقعة لم تتكرر في تاريخ الرئاسة الذي سجل، أي هذا التاريخ، واقعة هجرة الرئيس الثالث والعشرين بنجامين هاريسون إلى فنزويلا، بعد خسارته في تجديد الرئاسة، ليخلفه الخامس والعشرون الذي رغم أنه كان محبوباً من الجميع، فإن شخصاً يكره الحكومة قتله برصاصتيْن، خلال زيارته للمعرض الدولي في نيويورك.
رغم حصوله على أغلبية ساحقة، فإن الرئيس السادس والعشرين تيودور روزفلت، رفض الترشح لولاية رئاسية ثانية، ودعَم نائبه هوارد تافت (الرئيس السابع والعشرين)؛ لكنه لم يكن وفياً مع سلفه روزفلت، واستبعده من أي دور استشاري.
من أهم إنجازات الرئيس الثامن والعشرين وودرو ويلسون، أنه منح النساء حق التصويت (نحن الآن في عام 1920). وفي عهد خلَفِه (الرئيس التاسع والعشرين وارين هاردنغ) كثرت فضائح رشاوى تنقيب النفط، وتوفي الرئيس في ظروف غامضة، حامت فيها الشبهات حول زوجته وطبيبه الخاص، ليخلفه رئيس غريب الأطوار (الرئيس الثلاثون كالفن كولدج) حيث إنه خلافاً لكل أصول البروتوكول، كان يظهر أحياناً بملابس رعاة البقر. ويخلفه (الرئيس الحادي والثلاثون) هربرت هوفر، الذي كان أول الرؤساء استخداماً للراديو في إذاعة بياناته وتعليقاته (على نحو «تويتات» دونالد ترمب حاضراً).
على رغم عجْز ساقيه بسبب مرض شلل الأطفال، مارس فرانكلين روزفلت (الرئيس الثاني والثلاثون) الحُكْم بطريقة جعلتْه من التاريخيين. ويبقى لقاء السفينة فوق مياه قناة السويس عام 1945 بين روزفلت والملك عبد العزيز، واحداً من معالم الدور التاريخي للرئيس روزفلت في وضْع حجر الأساس للعلاقة الأميركية – السعودية، التي تزداد رسوخاً وإن اختلَفت الرؤى في عهد إدارة أو أُخرى. لكن أجواء الأمة عموماً اكفهرَّت مع الرئيس الخلَف هاري ترومان، الذي لم تمنع خلفيته المتواضعة، كونه بدأ حياته مديراً في محل مبيعات للقبعات، من أن يصبح نداً لزعماء تاريخيين في الخمسينات، أمثال جوزف ستالين وونستون تشرشل. أما مشكلة العرب معه، فإنها في انحيازه إلى إسرائيل، وحماسته المفرطة لها ماضياً مثل حماسة الرئيس ترمب حاضراً. ولولا الرئيس الخلَف (الرابع والثلاثون) دوايت آيزنهاور لكانت علاقات العرب مع أميركا تدهورت أخطر تدهور.
للمرة الأُولى يتبوأ الرئاسة كاثوليكي عريق (جون كيندي، الرئيس الخامس والثلاثون). فهل كان ذلك من دواعي اغتياله يوم 22 نوفمبر 1963 باستهداف موكبه، وعلى نحو اغتيال رفيق الحريري في بيروت؟ وخلفه ليندون جونسون (الرئيس السادس والثلاثون) الذي زايد على ترومان في انحيازه إلى إسرائيل. وخلَفَه ريتشارد نيكسون الذي عندما زار مصر الساداتية غنى له الشيخ إمام قصيدة من تأليف الشاعر أحمد فؤاد نجم. ولم تكن حال خلَفِه جيرالد فورد (الرئيس الثامن والثلاثون) أفضل؛ كونه تعرَّض لمحاولتي اغتيال.
وحده جيمي كارتر (الرئيس التاسع والثلاثون) دخل التاريخ من بوابة رعاية اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية، في كامب ديفيد، بين أنور السادات ومناحيم بيغن؛ لكن الجمهور الخميني شوّه له أمجاده، بعد احتلال السفارة الأميركية في طهران، والمحاولة الفاشلة من جانب قوات خاصة لإطلاق الرهائن. وهذا الإخفاق مهَّد الطريق أمام الهوليوودي رونالد ريغان (الرئيس الأربعون) الذي تعثَّر هو الآخر في لبنان، نتيجة أن محازبين ثوريين قاموا بعملية تفجير للسفارة الأميركية في لبنان، قضى فيها 241 من جنود النخبة (المارينز). وبعد الهوليوودي جاء النفطي التكساسي المخابراتي جورج بوش (الرئيس الحادي والأربعون) الذي دشن حملة إعادة الكويت إلى أصحابها، وإلغاء العراق كدولة ذات شأن. ووحده التاريخ الذي سيحكم على رئاسته.
ومرة أُخرى لعل الرئيسيْن عمر البشير وعبد العزيز بوتفليقة... وآخرين على الطريق، يتأملون في هذه المسيرة الرئاسية الأميركية على مدى قرنيْن. ففي التأمل ما قد يفيد.