سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

سبعون البحث عن «الإنسان»

أصابت كبد الحقيقة أنجيلا ميركل...
هذه السيدة التي استقبلت، وهي على رأس بلادها، أكثر من مليون لاجئ دفعة واحدة، متحدية الأصوات المعارضة، الخائفة من صعوبة الاندماج، مطلقة في وجههم عبارتها الشجاعة: «بلى، نستطيع»، هي نفسها تعرف اليوم كم أن تيارها الإنساني يتضاءل ويضعف. وقبل أيام، بمناسبة الاحتفال السبعين بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، اعترفت المستشارة الألمانية بأن «هذا النص البديع الذي كان له التأثير الكبير في البشر، لو أُعيد التصويت عليه في الأمم المتحدة، لما وجد أغلبية تتبناه، أو تدافع عنه، بسبب التراجع الكبير لمفهوم حقوق الإنسان».
في العاشر من سبتمبر (أيلول) عام 1948، وكانت البشرية خارجة للتوّ من حربين ماحقتين، صوّت على الإعلان العالمي 80 دولة عضواً في الأمم المتحدة وامتنعت الخمس المتبقية عن التصويت، وهي نتيجة باهرة. وصل عدد الأعضاء إلى 193، ويُخشى أن الكثير منها لم تعد مهتمة بتبني مثل هذا النص المثالي الذي ينشد ما يصعب تحقيقه، لكنه ينطوي على الكثير من الأمل والتفاؤل بإمكانية تدجين وحشية البشري وتقليم أظافره.
وإذا كانت المنطقة العربية رمزاً مؤلماً ونازفاً للحديث عن الانتهاكات والمجازر، فإن وضع أوروبا ينذر بخطر ليس بقليل. ولم يعد المحللون يُخفون أن وراء «السترات الصفراء» التي تنادي بالخبز والسقف والكرامة، يختبئ وجه قومي تعصبي، قد يفسح الطريق أمام اليمين المتطرف، ليتوَّج كأنه المخلّص، بعد إيمانويل ماكرون الذي قد يكون آخر آمال المؤمنين بالانفتاح والاندماج الحرّ.
وفي ألمانيا كما في بلجيكا والسويد، البدائل المتعصبة تلعب على أوتار غضب الشعوب وتنتظر عند أول مفترق. وتنظر مارين لوبن زعيمة حزب التجمع الوطني الفرنسي، بكثير من الأمل لترى تحولاً في التوازنات السياسية في البرلمان الأوروبي في مايو (أيار) القادم، خلال الانتخابات الأوروبية، مشيدةً وفرحةً بالديناميكية التي أظهرها حزبا اليمين المتطرف في الانتخابات البلدية في بلجيكا والانتخابات الإقليمية في ألمانيا.
في هذه الأجواء الملبدة بالشؤم يتحول إعلان حقوق الإنسان إلى مادة للسخرية دون أن ينتبه المستهزئون إلى أن الأمر لربما كان أسوأ بكثير لولا الجهود التي بذلها إنسانيون في هذا العالم آمنوا دائماً بأن القشة قد تسند خابية، وأن نصاً أممياً مثل الذي نتحدث عنه، حتى لو لم يكن ملزِماً لمن وافقوا عليه، إلا أنه بقي قاعدة قانونية بُني عليها، فهو أصل في وضع العديد من الاتفاقيات الدولية لمنع التمييز ضد المرأة عام 1979، وأخرى ضد التعذيب عام 84، وغيرها لحفظ حقوق الأطفال عام 90، وبناء عليه أُنشئت المحكمة الجنائية 1998.
بالطبع، لا يَعتبر العرب أنفسهم معنيين، وينظرون إلى أنفسهم كضحايا، وإلى هذه النصوص كأقنعة زيف يختبئ وراءها الوجه الشرير للغرب. وهذا قد يكون صحيحاً أحياناً، لأن من يستغلون النصوص على أنواعها أكثر ممن يرمون للاستفادة من نبلها. لكنّ الفيلم الذي أخرجته مؤخراً الفلسطينية روان الضامن، يحكي كيف أن هذا الإعلان لم يكن صنيعة الدول الكبرى المنتصرة، التي عادت واستغلته متى أرادت، وإنما نتيجة معركة خاضتها دول صغيرة وفقيرة بكل عزيمتها، معتبرة أنها تنتصر لنفسها ولمستقبلها، من خلاله.
وإذا كان دور اللبناني شارل مالك في تدبيج النص معروفاً، فقد كان إلى جانبه جيم – تشانغ من الصين. وفي فيلمها تُظهر الضامن أنها بمراجعة 200 وثيقة من محاضر الأمم المتحدة التي تعود إلى أواخر أربعينات القرن الماضي، اكتشفت كم كان دور دول من العالم الثالث كبيراً. فقد شارك في وضعه ما يقارب 250 ممثلاً عن دول أعضاء، بينهم مفكرون من بنما وكوبا وباكستان والهند وتشيلي. لكن لا يبدو في الواجهة إلا اليونور زوجة فرنكلين روزفلت، الرئيس الثاني والثلاثين لأميركا، كأنها زعيمة الفكرة، ورنيه كاسان من فرنسا وجون هنفري من كندا، الذي كان حينها مدير شعبة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. وللمفارقة لم تكن كندا رغم كل جهود هنفري من بين الدول التي صوّتت على المشروع النهائي. ومَن يقرأ بأيِّ حماسة كان شارل مالك يعمل، وهو يشعر أن هذا الإعلان حاجة إلى لبنان كدولة صغيرة مسالمة هشة، وحماية لها ولدورها الذي يفوق حجمها في بناء الجسور، ونشر رسالة التسامح والتعايش، يدرك أن هذا الإعلان لم يوجد في البدء لإخضاعنا ببنوده البراقة، لكنّ ضعفنا هو الذي جعلنا بعضاً من ضحاياه، وعدم قدرتنا على توظيفه سيبقينا بعيدين عن قطف ثمره.
الصورة كانت واضحة في أذهان الشعوب بعد الحرب العالمية الثانية. كان ثمة تطلع لطيّ الصفحة المأساوية وبناء عالم يصلح للعيش دون حروب، فيما الذهنيات مشوّشة اليوم. هناك ضبابية حول كيف يمكن للإنسان أن يجد عملاً، هل باستقبال المهاجر والتعاون معه، أم بإقامة الجدران لمنعه من الانتقال؟ كيف للشعوب أن تحسّن اقتصادها، وسط موجات البطالة والشح، هل بفتح الأبواب أمام البضاعة الوافدة أم برفع الضرائب وحماية الصناعات المحلية؟ هل الوحدة بين الدول هي الخلاص أم الطلاق البائن، كما تجازف وتفعل بريطانيا؟ والأرجح أن الناس يذهبون إلى جحيمهم لأنهم يظنون أن قوانين التآخي، ولو الجزئية، هي المسؤولة عن بؤسهم، ولا يفكرون أبداً أنهم ربما لم يكونوا إنسانيين بالقدر الكافي، وأنهم مارسوا فهمهم للإعلان الشهير بما يتناسب وأنانيتهم الضيقة، لا بما يتناغم وروحه الشفافة.