شارلز ليستر
- زميل ومدير قسم مكافحة الإرهاب بمعهد الشرق الأوسط
TT

مآلات التوتر العربي ـ الكردي شرق سوريا

مع بطء وتيرة القتال في الداخل وازدياد محاولات الأطراف الخارجية السيطرة على الأراضي، يتحول الاهتمام الدولي المعني بالملف السوري صوب المستقبل. ومع بحث ومناقشة المزيد من القضايا ذات الأهمية مثل عودة اللاجئين، والإصلاح الدستوري، وإعادة الإعمار، والانتخابات العامة في خاتمة المطاف، يبدو العالم عاقداً العزم على تلمس لمحات من الضوء في نهاية النفق السوري الطويل المظلم.
ومع ذلك، لا تزال الأوضاع هناك أبعد ما تكون عن الاستقرار مع الأسباب الجذرية، ودوافع الاضطراب باقية ومنتشرة على أوسع نطاق ممكن، بل وربما هي أسوأ مما كانت عليه الأمور في عام 2011، إذ لم يتزحزح النظام السوري الحاكم قيد أنملة عن اعتماد الأساليب القمعية الوحشية، ولم يتعامل أحد مع أيٍّ من مظالم الانتفاضة الشعبية المدنية لعام 2011، وتفشى التطرف، وعمّ الفساد ربوع البلاد، وأصبح أمراء الحرب في حالة هي أقوى مما كانوا يحلمون، وبات لاقتصاد الحرب الكلمة العليا على جميع جوانب الحياة العادية في كل ركن من أركان سوريا. وليست هناك من خطة حقيقية لتسوية أيٍّ من هذه القضايا ولا غيرها من المسائل الأخرى التي يقصر المقام عن ذكرها.
ومن بين النتائج المؤسفة للأزمة السورية الراهنة التي تهدد بالاستمرار، ومن شأنها تصعيد حالة عدم الاستقرار والنزاع على المدى الطويل، العداء المتجذر القائم راهناً بين قوى المعارضة المدعومة من قبل تركيا، وأغلبها من العرب والتركمان، وبين قوات سوريا الديمقراطية، ذات الأغلبية الكردية، والمدعومة من الولايات المتحدة. ورغم وجود التوترات العرقية في تلك المنطقة لسنوات قبل عام 2011، فإنها شهدت الكثير من التفاقم وبصورة غير مسبوقة في السنوات الأخيرة من عمر الصراع. وكان المحرك الرئيسي لهكذا تدهور هو القرار الأميركي الصادر عام 2014 بشأن الشراكة مع الجناح السوري من حزب العمال الكردستاني - المعروف إعلامياً باسم حزب الاتحاد الديمقراطي، وجناحيه المسلحين: وحدات الحماية الشعبية، ووحدات حماية المرأة – بغية محاربة تنظيم داعش الإرهابي. أسفر القرار الأميركي، إلى جانب النفوذ المتزايد لحزب الاتحاد الديمقراطي سياسياً وعسكرياً، عن ردة فعل عدائية شديدة من جانب تركيا، التي تعتبر حزب العمال الكردستاني من قبيل التهديدات الوجودية على الأمن القومي للبلاد. ومع ذلك، وبدلاً من تقليص الدعم الكردي لحزب الاتحاد الديمقراطي، يبدو أن التدخلات العسكرية التركية في الأزمة السورية منحت حزب الاتحاد الديمقراطي قدراً هائلاً من الشعبية واسعة النطاق داخل المجتمعات الكردية المنتشرة في المنطقة.
فيما بين عامي 2014 و2018، أسفر تنافس الأولويات الجيوسياسية والأمنية، داخلياً وخارجياً، في شمال سوريا – من محاربة «داعش»، ثم مواجهة نظام الأسد، إلى احتواء حزب العمال الكردستاني – عن دفع التوترات العرقية العربية الكردية إلى مستويات شديدة الخطورة. وشرعت تركيا عبر التدخل العسكري في شمال سوريا إلى احتواء حزب العمال الكردستاني، من الزحف إلى جرابلس وغيرها من البلدات شمال حلب في أغسطس (آب) عام 2016، ثم في عفرين في يناير (كانون الثاني) عام 2018. واليوم، تبدو تلك المناطق كشيء أشبه بامتداد الدولة التركية خارج النطاق الحدودي أكثر من كونها خاضعة للسيطرة السورية. وعززت الولايات المتحدة، في الأثناء ذاتها، من حجم دعمها المستمر لقوات سوريا الديمقراطية، حيث وضعتها موضع السيطرة الفعلية على قرابة ثلث إجمالي الأراضي السورية. وفي نوفمبر (تشرين الثاني)، كان من المقرر أن تكون زيارة إلهام أحمد، المسؤولة الكبيرة في قوات سوريا الديمقراطية إلى العاصمة واشنطن، بمثابة الفرصة الكبيرة لإعادة تصنيف الذات كحليف من أوثق حلفاء الولايات المتحدة في مواجهة إيران، الأمر الذي يعزز كثيراً من دورها كحليف ثمين للغاية لدى واشنطن وعلى المدى الطويل. وعلى فرض أن المنطقة منزوعة السلاح قد اتخذت مكانها في إدلب على النحو الصحيح، فإن الشمال السوري يبدو أنه قد انقسم ذاتياً إلى إقليمين متنافسين – أحدهما تحت الحماية التركية والآخر تحت الحماية الأميركية.
ومن شأن التنافسية التي تتسم بها الأوضاع الراهنة هناك أن تستحيل بسهولة كبيرة إلى عداء شرس بين الجانبين – ما لم يتم التوصل إلى حالة من التفاهم الأكثر ديمومة – بين الولايات المتحدة وتركيا أولاً، ثم بين وكلاء القتال الموالين لهما على أرض الواقع ثانياً. ومن الناحية النظرية، فإن مثل هذا الاتفاق يصبّ في صالح الطرفين، على اعتبار الشواغل الإقليمية بشأن عودة نظام الأسد إلى حكم المناطق الشمالية من البلاد، وما يعقبه من أي وجود عسكري إيراني محتمل. ومن المؤكد أن يصب الأمر في صالح الحكومات الأخرى في المنطقة التي تتعارض مصالحها مع المصالح الإيرانية التوسعية والعدائية.
ومن شأن التقدم على مسار هذه الانفراجة في العلاقات أن يكون بطيئاً بالضرورة، بدءاً بتسيير الدوريات الأميركية التركية المشتركة في بلدة منبج المتنازع عليها، وربما وجود تدابير مماثلة لبناء الثقة شرق نهر الفرات. وفي خاتمة المطاف، لا بد من التعامل مع جوهر المسألة بوضوح: الدور المهيمن لحزب العمال الكردستاني في صناعة قرارات قوات سوريا الديمقراطية. وتفيد المصادر المطلعة بأن أنقرة تحتفظ بقائمة تضم أسماء 50 شخصية بارزة ضمن صفوف قوات سوريا الديمقراطية، ويتعين إخراجهم جميعاً من سوريا قبل الشروع في أي عملية للوساطة أو الدخول في أي اتفاق أوسع نطاقاً هناك. ويوافق كبار المسؤولين الأميركيين والأتراك، كلٌّ على انفراد، بأن هجمات القنابل المفخخة من قبل الجماعات المرتبطة بحزب العمال الكردستاني قد توقفت داخل تركيا جراء الضغوط الأميركية من خلال حزب الاتحاد الديمقراطي. ولهذا السبب تحديداً تعتقد تركيا بإمكانية إعادة تشكيل حزب الاتحاد الديمقراطي تحت مظلة النفوذ الأميركي.
ومن الضروري كذلك اتخاذ العديد من الخطوات الإضافية الأخرى، بما في ذلك القبول التركي بمراكز الرصد والمراقبة المنشأة حديثاً بواسطة القوات الأميركية على طول الحدود السورية - التركية المشتركة، إلى جانب مغادرة عناصر حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات الحماية الشعبية الكردية من البلدات العربية التي تحتلها قوات سوريا الديمقراطية في الآونة الراهنة مثل بلدة مارع، وبلدة تل رفعت، إلى جانب سلسلة من الترتيبات المشتركة هناك، ووقف كامل لجميع أعمال التهديد التركية في الأراضي الخاضعة لمناطق العمليات العسكرية الأميركية.
ومن الأهمية إدراك أن الوجود الطويل داخل سوريا سيصير أقل احتمالاً مع استمرار الوضع الراهن المعقد والمشوب بالتوتر العميق. وإذا ما كانت الولايات المتحدة تعتزم الانسحاب الكلي من المستنقع السوري، ستُطلق يد الأسد ونظامه تماماً في فعل ما يروق له من دون ضابط ولا رقيب، وستعتبرها طهران دعوة فورية ومفتوحة لتوسيع وجودها – على كل الصعد العسكرية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية – في شمال شرقي سوريا، وربط المنطقة هناك بأنشطتها المعروفة في شمال غربي العراق. وفي هذا السيناريو، من المرجح أن تتكبد قوات سوريا الديمقراطية الكثير من الخسائر الفادحة، وستكون دواعي التطرف والإرهاب أكثر جاذبية مما كانت عليه من قبل. وإذا كان الدعم الحكومي الرسمي من دول عربية كبيرة من عوامل الحسم ذات الأهمية القصوى في الحفاظ على الوجود الأميركي داخل سوريا، فإنه من شأن الجهود الإقليمية ذات الصلة والرامية إلى تفادي المواجهات العرقية في شمال سوريا أن تكون على نفس القدر من الأهمية. وعلى مدى أربع سنوات، كانت هذه المسألة قيد التهميش غير المفهوم. ولا يمكن بحال استمرارها على هذا المنوال أكثر من ذلك.

* زميل ومدير قسم مكافحة الإرهاب بمعهد الشرق الأوسط في واشنطن - خاص بـ«الشرق الأوسط»