سام منسى
إعلامي لبناني قدم لعدة سنوات برنامجا حواريا سياسيا في قناة الحرة. المدير العام لإذاعة "صوت لبنان" سابقا والمدير التنفيذي السابق لـ"بيت المستقبل"، وكاتب عمود في "الشرق الأوسط". مهتم بجمع ومعالجة البيانات المتعلقة بشؤون الشرق الأوسط، خصوصاً الجوانب السياسية والاجتماعية للتنمية العربية.
TT

ملهاة سوداء بمواجهة الصواريخ الدقيقة

لا يسع المراقب للمشهد السياسي في لبنان إلا أن يسأل عن تفاؤل الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري بأن ولادتها باتت على بعد «مائة متر»، وأن العقد محلية وليست إقليمية، بينما مئات العثرات الأخرى تتساقط حوله، الكامن منها أكثر من الظاهر. فبعد أن نجح حزب الله في تصوير المشكلة بأنها سنية - سنية كما في إظهار أن توجه الممانعة الذي يمثله هو توجه عابر للطوائف، بدأ يتسرب إلى العلن ما كان يضمره سراً من نيات مضمرة بشأن النظام القائم واتفاق الطائف.
أحد المقربين من حزب الله وصف مؤخراً اتفاق الطائف خلال ندوة عقدت في بيروت بأنه «جاء ليعالج مشكلات مرحلة معينة» في تاريخ لبنان وهو اليوم «عاجز عن معالجة مشكلاته الراهنة»، مؤكداً حاجة البلاد إلى «عقد اجتماعي جديد»، وداعياً من جهة أخرى إلى «تقديم مقاربة جديدة لبناء الدولة الحديثة»، لا سيما في شأن «حصريتها في امتلاك السلاح واستخدام العنف»، مستشهداً بالوضع في الولايات المتحدة حيث «السلاح مسموح للجميع»!. كلام يؤشر على أن حزب الله بات قاب قوسين من تحقيق الانقلاب الذي طالما تحدثنا عنه ونسجت خطواته بسلسلة من التسويات ووصلنا اليوم إلى الفصل الأخير منه.
اللافت والمحزن أن القوى الأخرى في المقابل تتعامل مع القضية على أنها مجرد شد حبال حول «محاصصة وزارية» تعبر عن أحجام القوى السياسية وفقاً لما أفرزته نتائج الانتخابات الأخيرة، وتسعى جاهدة إلى تسوية جديدة يحفظ فيها ماء الوجه إما باسم حماية السلم الأهلي أو باسم إبعاد البلاد عن هاوية الانهيار الاقتصادي والإفلاس المالي، تؤدي بالمحصلة إلى غلبة حزب الله.
وسط هذه الملهاة السوداء اللبنانية، برز تطوران: الأول ما تقوله إسرائيل حول اكتشاف أنفاق عبر الحدود تصل إليها، والثاني هو نقل إيران منشآتها لإنتاج صواريخ دقيقة التوجيه من سوريا إلى لبنان.
وإذا صح ما تقوله جهات قريبة من حزب الله إن الأنفاق قديمة وتعود لأكثر من 12 سنة، وإن إعلان إسرائيل اليوم عنها هو للضغط أكثر على لبنان ولأسباب داخلية متعلقة بوضع رئيس الحكومة نتنياهو. مهما تكن صحة هذا الكلام من عدمه، تبقى القضية خطيرة وتطرح أدوار القوات الدولية والجيش اللبناني وفعاليتهما.
بالنسبة إلى الصواريخ الدقيقة، على الرغم من النصر الذي حققته طهران في سوريا فإنها خسرت على جبهات عدة: تعرضت مواقعها ومنشآتها العسكرية في سوريا للقصف الإسرائيلي المتواصل، خسرت رهان الوجود في مرتفعات الجولان والضغط تالياً على إسرائيل من جبهتين، خسرت حصرية النفوذ في سوريا وحرية الحركة بسبب الوجود الروسي، خسرت اقتصادياً بسبب أعباء هذه الحرب وتجديد العقوبات عليها، وخسرت أخيراً جراء خروج واشنطن من الاتفاق النووي 2015. أمام هذه الخسائر، زادت أهمية لبنان عند إيران، لأنه بات المساحة الجغرافية الوحيدة الصافية التي تتحرك فيها بحرية كاملة كونها ساقطة عسكرياً وسياسياً بيد وكيلها حزب الله.
تتحدث الأنباء عن امتلاك حزب الله نحو 130 ألف صاروخ ثقيل ستسمح له في حال تحويلها إلى صواريخ دقيقة بتنفيذ ضربات سريعة وفعالة في العمق الإسرائيلي. إن حصول حزب الله على أسلحة متطورة أو إنتاجها هو خط أحمر بالنسبة لإسرائيل ويضع الطرفين على مسار تصادمي قد يؤدي إلى اندلاع حرب في لبنان. إلا أنه يبدو أن طهران وحزب الله يعتقدان أن نقل هذه المنشآت إلى لبنان ليس بهذه الخطورة، مراهنين على أن إسرائيل تتجنب منذ حرب 2006 الاعتداء على لبنان بسبب قوة الردع التي يمتلكها الحزب ومخاطر تحول أي اعتداء على لبنان إلى حرب شاملة تندمج فيها الجبهتان السورية واللبنانية. هل هذا صحيح أم الحرب حتمية في لبنان؟ وكيف نقرأ مواقف القوى المؤثرة الأخرى وفي مقدمتها روسيا والولايات المتحدة؟
قلما وجدت إسرائيل نفسها مقيدة كما هي اليوم وذلك لأسباب عدة تبدأ بتقييد روسيا حريتها الجوية في ملعبها الخلفي، وتزويدها النظام السوري بمنظومة صواريخ إس - 300، ولا تنتهي بما يسمى «قواعد اللعبة» التي تحدد علاقتها بحزب الله منذ انتهاء حرب 2006. ونشهد اليوم إثر ذلك نهجاً إسرائيلياً غير معتاد هو النهج التبريري، بدأ مع خطاب رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 25 سبتمبر (أيلول) الماضي كاشفاً بالصور والخرائط عن مواقع حزب الله السرية لإنتاج الصواريخ قرب مطار بيروت الدولي، مروراً بلقاءاته مع الرئيس الورسي فلاديمير بوتين المتكررة لمناقشة كيفية احتواء التمدد الإيراني في سوريا، وصولاً إلى الرسائل التحذيرية التي أرسلتها إلى الحكومة اللبنانية عبر الولايات المتحدة وفرنسا بأنها ستتخذ ما تراه مناسباً في حال لم تقم بأي خطوات لردع حزب الله. لم تعتمد إسرائيل يوماً هذا النهج الدبلوماسي - السياسي لتبرير أي عدوان تشنه. إذا أضفنا إلى ذلك مشهد اتهامات الفساد ضد رئيس وزرائها والبلبلة الداخلية التي تثيرها قد يبدو لنا أن الحرب ليست بقريبة.
بالنسبة إلى روسيا، جل اهتمامها اليوم ينصب على إعادة تثبيت نظام الأسد في سوريا وليس من مصلحتها نشوب حرب مجاورة قد تمتد إلى سوريا، كما ليس من مصلحتها أن تبقي إيران منشآتها العسكرية في سوريا ولعل ذلك دفع بإيران إلى نقل هذه المنشآت إلى لبنان. إن مواقف روسيا حتى الآن تشي بأنها لم تقم بأي خطوات جدية لوقف التمدد الإيراني في كل من سوريا ولبنان، فيما عملت في المقابل على الحد من حرية حركة إسرائيل فوق سوريا.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة يبقى أمن إسرائيل أولوية لها وستتضامن مع أي خطوة تقوم بها إسرائيل، ولن تتساهل أو تتسامح مع أي نوع من الحراك الإيراني الذي يمكن أن يهددها. إلا أن السياسة الأميركية لا تزال من جهة ماضية في الفصل بين الحكومة اللبنانية وحزب الله وتقوية القوّات الحكومية، ويبدو من جهة أخرى أنها تفضل مواجهة إيران وحزب الله عبر العقوبات أكثر منه عسكرياً. كان بوسع الولايات المتحدة التدخل أكثر عسكرياً في سوريا من باب ردع إيران، إلا أنها لم تفعل لأسباب عدة من أبرزها تفادي المواجهة مع موسكو. يبقى أن كل الدلائل تشير إلى أن واشنطن ليست متحمسة لأي حرب إسرائيلية جديدة ضد لبنان.
ما أسلفناه يؤشر على أن احتمال استمرار وقف الأعمال القتالية هو السيناريو المرجح في الوقت الحاضر. مع ذلك، لن ترتدع إسرائيل في حال استشعارها بالخطر عن شن هجوم ضارٍ على لبنان، على الرغم من الضرر الذي سيصيبها إنما قد لا يذكر مقارنة بالتدمير الذي سيلحق بلبنان. أمام هذا المشهد وبغياب الدولة في لبنان وليس الحكومة فقط، كيف يمكن مواجهة هذه المخاطر بمزاج لا يزال يعتبر أن المسألة اللبنانية هي شأن داخلي؟ إنها حقاً ملهاة سوداء.