سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

حقوق الإنسان لها تصنيف واحد

في الرابع من هذا الشهر أعلنت أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة، كما تعلن في كل سنة، أنها بصدد الاستعداد لحفل جوائز الأوسكار الجديدة، وأن الاختيار قد وقع على الممثل الكوميدي الأميركي كيفن هارت، ليقدم الحفل هذا العام، وأن اختياره كان من بين خيارات عدة كانت مطروحة أمامها، وأن الحفل المرتقب سوف يقام في السابع والعشرين من فبراير (شباط) المقبل!
وما كادت الأكاديمية تعلن الخبر، حتى قامت الدنيا عليها ولم تشأ أن تقعد، إلا بعد أن خرج بيان واضح عنها يقول ما معناه، أنها قد تراجعت عن اختيارها، وأنها تبحث عن اختيار آخر، وأن هارت لن يقدم الحفل، وأن اختياره من جانبها إذا كان يقتضي اعتذاراً للذين ساءهم مثل هذا الاختيار، فإن عندها قدراً من الشجاعة يجعلها قادرة على الاعتذار عن خطأ وقع منها عن غير قصد!
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ولكنه تطلب اعتذاراً موازياً من الفنان نفسه، الذي قال في بيان صدر عنه هو الآخر، أنه لن يقدم الحفل، وأنه لا يريد إفساد ليلة جوائز الأوسكار على الذين ينتظرونها من عام إلى عام، ويجدون متعة في متابعتها، وأنه آسف جداً إذا كان الإعلان عن خبر تقديمه للحفل قد سبب أذى لأي أحد، وأنه يتمنى ليلة مبهجة لكل محب للفن يترقب تلك الليلة منذ الآن!
فما القصة بالضبط؟!.. وما هو الموضوع على وجه الدقة، الذي تسبب بكل هذا الارتباك على مستوى الأكاديمية الشهيرة، ومستوى الفنان الشهير أيضاً، ثم على مستوى عدد من الذين تلقفوا الخبر في بدايته، وأثاروا به ضجة لم يملك القائمون على الأكاديمية خياراً إزاءها سوى مراجعة اختيارهم، وفي النهاية التراجع عنه أمام زوبعة وجدوا أنفسهم في مواجهتها؟!
القصة أن هارت له موقف من المثليين في العالم، وأنه كان قد سخر منهم في عدد من المناسبات، وأنه كان قد هاجمهم في تغريدات كتبها على حسابه على «تويتر»، ولأنه نجم في دنيا الفن الأميركي، وليس من آحاد الناس الذين يمكن أن يقولوا ما قاله هو نفسه، في الموضوع ذاته، ثم يمر دون إثارة أحد، فإن موقفه لهذا السبب قد أثار كثيرين من المثليين عليه، فتوعدوه، وراحوا يتعقبونه في كل مكان، وأعلنوها عليه حرباً، ووجدوا في حكاية حفل الأوسكار مناسبة سانحة للرد عليه، ثم لتصفية حساب قديم معه، والنيل منه كما كان قد نال منهم، عندما نشر تغريداته وأطلقها في حينها في الفضاء الإلكتروني على نطاق واسع!
هذه هي القصة في حدودها الطبيعية، أقصد حدود أكاديمية الأوسكار، وحدود الفنان الكوميدي، ثم حدود الذين غضبوا من كلام قاله على حسابه الخاص، ولكن القصة الأكبر أن الغرب إذا كان يعرف دوائر في داخله ترى للمثليين حقوقاً، وإذا كانت هذه الدوائر تدعو دون حياء إلى مراعاة مثل هذه الحقوق التي تراها، فهي حرة طبعاً، غير أنها ليست حرة في المطالبة بهذه الحقوق خارج حدود الولايات المتحدة والعالم الغربي عموماً، إلى حد محاولة فرضها في بعض الأحيان في منطقتنا نحن هنا. أقول هذا لأني قد لفت انتباهي خلال لقاءين منفصلين مع اثنين من المسؤولين المصريين الرسميين مؤخراً، أنهما لاحظا في لقاءات متعددة لهما مع نظراء لهما في أوروبا، أن هؤلاء النظراء مشغولون في كل لقاء يجمعهم مع مسؤولين في المنطقة، ليس بقضية حقوق الإنسان بشكل عام، وخصوصاً حقوقه الأساسية التي لا خلاف حولها تقريباً، ولكنهم مشغولون بحقوق من نوع الحقوق التي أقصت الفنان الأميركي عن تقديم حفل الجوائز الأشهر هذه السنة!
إنهم مشغولون بها إلى حدٍ لافت فعلاً، ولا يتوقفون عن إثارتها في كل نقاش يتعرض لحقوق الإنسان في المحافل العامة!
إنني أذكر جيداً، أن لقاءً كان قد جمعني مع زملاء قبل سنوات على عشاء في بيت مارغريت سكوبي، سفيرة الولايات المتحدة السابقة في القاهرة، وكنت مشغولاً في أغلب وقت اللقاء، بمعرفة مدى الدعم الذي تقدمه بلادها لنا في مصر، في ملف التعليم على وجه الخصوص، ولأن دعم واشنطن في هذا الملف تحديداً، لا يحمل الكثير وربما لا يحمل القليل أيضاً، ولأنه دعم يتم، إذا تم، على استحياء، فالسفيرة سكوبي كانت تتكلم عن الحق في حرية التعبير، والحق في حرية التظاهر، وعن الحق في الإضراب، كلما كلمناها يومها عن الحق في التعليم على سبيل المثال!
وكما فهمت من أحد المسؤولين الاثنين اللذين التقيتهما بالصدفة، فإنه حاول بشتى الطرق إقناع جمع من المسؤولين الأوروبيين، أثناء اجتماع جرى في عاصمة أوروبية قبل أسابيع، بأن لدى المواطن في مصر، وفي العالم العربي بالضرورة، حقوقاً رئيسية تشغله وتضغط عليه، وأنه في حاجة إلى توفير الحد المعقول من هذه الحقوق، وخصوصاً الحق في التعليم، وفي العلاج، وفي السكن، وفي الحياة الآدمية الكريمة، وأن ذلك يمثل أمراً شاغلاً لحكومته في كل وقت!
حاول المسؤول شرح ذلك بكل لغة ممكنة، وبكل منطق مفهوم، ولكن دون جدوى تقريباً، لأنه كان يُفاجأ في النهاية بأن الذين يتكلم معهم يسدون آذانهم، في وجه كل حديث من هذا النوع، فإذا فرغ صاحبه من كلامه عادوا يتحدثون فيما تحدث فيه الذين وقفوا في طريق كيفن هارت، وحرموه من تقديم حفل الأوسكار، وأطلقوا قنابل الدخان من حوله، وطاردوه حتى طردوه!
إن الحكومة المصرية تنفذ هذه الأيام، مشروعاً صحياً طموحاً اسمه «100 مليون صحة»، وهو مشروع يقوم على أساس إجراء مسح شامل للمائة مليون مصري، لإعلان مصر في 2020 خاليةً تماماً من مرض فيروس سي. وقد قسمت الحكومة في القاهرة جهدها على مستوى محافظات البلد السبع والعشرين إلى مراحل ثلاث، وقد أنهت الأولى منها، وبدأت في الثانية، وتكاد تنتقل إلى الثالثة، وفي المراحل الثلاث يجري الكشف على المواطن، وتحليل نتيجة الكشف، وتوفير العلاج المطلوب مجاناً بنسبة مائة في المائة!
مشروع بهذا الوزن مجرد مثال، وهو ينتظر دعم الذين يتكلمون عن حقوق الإنسان في العالم، ومن بينها الحق في الخدمة العلاجية الجيدة، وينتظر أن تتلقى الحكومة التي تنفذه، مساندة جادة من كل الذين تعنيهم حقوق الإنسان على وجهها الصحيح، وينتظر أن يكون موضع مساعدة، وعون، وتحية! ولكن، كلما تكلم أحد في ملف جادٍ كهذا، في محفل غربي، فإنه يكتشف أن حقوق الإنسان لها تصنيف آخر لدى أغلب الغربيين المتحدثين عنها معنا.. إنهم يرون حقوق الذين تعقبوا هارت، قبل أن يروا حقوق الأطفال الذين يتسربون من التعليم ويهيمون على وجوههم في الشوارع!
يرون حقوقاً لا يقبل بها كتاب سماوي، مع أن حقوق الإنسان لها تصنيف واحد!