عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

العالم العربي وتحدي التسامح

أمراض العالم العربي وآفاته التي تنخر في جسده، كثيرة ومعروفة، منها السياسي، ومنها الثقافي، والمجتمعي، ومنها ما هو غير ذلك، من مسببات الحروب والتناحر والتنافس. من دون الخوض في تفاصيل، فإننا لو أردنا تشخيص الأسباب الكثيرة لهذه الأمراض، فسنجد مكاناً بارزاً بينها لقضايا الفشل في التعايش، والتعصب والتمييز.
لهذا يتمنى المرء لو أن مبادرة دولة الإمارات في الاهتمام بإعلاء قيم التسامح والتعايش تصبح مبادرة عربية لأننا أحوج ما نكون إلى نشر وتعزيز هذه الثقافة والقيم، التي تراجعت في أجواء التطرف والتعصب والحروب. فمن بين الدول العشرين الأقل تسامحاً وفقاً لأكثر من مؤشر دولي هناك 8 دول عربية، و5 دول إسلامية، وهو رقم يرتفع كثيراً إذا ذهبنا في القوائم حتى التصنيف الخمسين من الأسفل.
لقد دفع العالم العربي، ولا يزال يسدد، ثمناً باهظاً نتيجة الفشل في التعايش بين مكوناته، وتراجع قيم التسامح، وثقافة الحوار وقبول الآخر. لبنان نموذج بارز للثمن الذي يدفعه الوطن عندما تفشل مكوناته في التعايش السلمي، وتأسيس هوية المواطنة التي تعلي الانتماء إلى الوطن على كل اعتبارات أخرى، وترفض التمييز على أساس الدين أو المذهب. لبنان ليس وحده بالتأكيد، فأمامنا اليوم الحالة العراقية والسورية والسودانية، حتى الليبية واليمنية. فما أصاب هذه الدول، بغضّ النظر عن أي اعتبارات سياسية، أو تدخلات خارجية، جذوره موجودة في الفشل في ترسيخ التعايش وثقافة التسامح وقبول الآخر ونبذ التمييز المذهبي والطائفي والعرقي.
الإمارات أعلنت قبل أيام أن عام 2019 سيكون عاماً للتسامح، وذلك ضمن خطواتها لتعزيز مبادئ أرساها الشيخ زايد بن سلطان وجعلها بين أساسيات سياساته الداخلية والخارجية. وفي هذا الصدد كانت الدولة أعلنت في عام 2016 تأسيس أول وزارة للتسامح في العالم، وأصدرت قانوناً لمكافحة التمييز والكراهية، كما تبنت عدداً من المبادرات لتعزيز الحوار بين الشعوب والأديان، مثل «البرنامج الوطني للتسامح»، و«المعهد الدولي للتسامح»، و«جائزة محمد بن راشد للتسامح»، وبرنامج المسؤولية التسامحية للمؤسسات، وغيرها من البرامج. هذا إلى جانب تأسيس المراكز الهادفة إلى محاربة التطرف والتعصب، وتعزيز الحوار مع الآخر.
هذه المبادرات لا تنبع من فراغ، في بلد يحتضن أكثر من 200 جنسية، ويتطلع لتأصيل مفاهيم التعايش والتسامح كركيزة من ركائز الاستقرار والأمن الداخلي، وتنشئة الأجيال الجديدة، والانفتاح على العالم الخارجي. لذلك أتوقع أن تمضي الإمارات في هذا النهج، الذي يأمل المرء أن يراه يمتد إلى مختلف أرجاء العالم العربي.
الواقع أن تعزيز التسامح والتعايش يشغل العالم كله اليوم، ولا سيما مع صعود تيارات الشعبوية والحركات العنصرية والمنصات التي تروّج للعداء ضد المهاجرين وتغذي الكراهية ضد المسلمين. اللافت أنه في عصر العولمة الذي أسقطت فيه الإنترنت الحدود بمفهومها التقليدي، رأينا تراجعاً في الانفتاح، وصعوداً للتيارات الداعية إلى إقامة الجدران في وجه المهاجرين، وتشديد القيود على الحدود. ووظفت هذا التيارات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لنشر دعاياتها وبثّ مشاعر الخوف من «غزو المهاجرين» ومن «المسلمين الذين يحاولون تغيير هوية الغرب».
في هذا الصدد بدأت «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» في السنوات الأخيرة تنظر إلى تأثيرات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي على حياة الأجيال الجديدة، التي تؤدي أحياناً إلى التقوقع والانغلاق بدلاً عن الانفتاح، وتضعف الاتصال المباشر بين الناس وتخلق ما يشبه الجزر المنعزلة بين المجموعات المختلفة. ولم تنسَ أيضاً تأثير ما يسمى بالأخبار المفبركة في الإنترنت، وتصاعد الخطاب القومي والشعبوي والعنصري، والجدل حول الهجرة، وانعكاسات ذلك على الأجيال الناشئة وطريقة تفكيرها ونظرتها للأمور.
وترى المنظمة دوراً للمدارس والأساتذة ولمناهج التعليم في مواجهة الجهل والفكر المنغلق، ومشاعر التمييز والكراهية العمياء، وذلك بتعزيز مفاهيم الانفتاح والتسامح والتعايش. ولهذا الغرض قررت إدخال بعض التغييرات اعتباراً من العام الحالي على أسس الاختبار الذي بمقتضاه تصنف ترتيب الدول في سلم التعليم العالمي الذي تجريه مرة كل 3 سنوات. فبدلاً من النظام المتبع في السابق في تقييم الدول وفقاً لنتائج اختبارات الرياضيات والقراءة، ستوضع أسئلة أخرى للتلاميذ في الدول المشاركة تتناول قضايا العنصرية والتمييز، وكيفية التعامل مع الأخبار المفبركة، والهجرة والتعايش. نتائج الاختبارات الجديدة التي طبقت هذا العام ستظهر في قائمة الترتيب التعليمي للدول المشاركة، التي ستنشر في 2019.
المعايير الجديدة ستضع في الاعتبار «احترام الكرامة الإنسانية، والتنوع»، وكذلك الحاجة إلى تقدير أهمية العيش بوئام في المجتمعات ذات التنوع الثقافي، والإثني، والديني، والعرقي، وإبراز أهمية تفهم الثقافات الأخرى المختلفة واحترام البشر بغضّ النظر عن خلفياتهم وانتماءاتهم.
العالم شهد كثيراً من العنف بسبب الاختلافات الدينية أو الإثنية، ما يبرز الحاجة إلى تعليم الأجيال الجديدة أهمية التسامح والتعايش مع الآخر، وتقبل حقيقة أن سنة الكون هي التنوع الذي ينبغي النظر إليه على أنه مكون أساسي يثري الحياة، وأن الاختلافات في العرق أو اللون أو المعتقد لا تبرر التمييز بين البشر. لهذا لم يكن غريباً أن تخصص الأمم المتحدة يوم 16 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام يوماً للتسامح بغرض التوعية بمخاطر الانغلاق والتذكير بالتعايش والتسامح كقيم إنسانية مهمة للمجتمعات وبين الدول. لكننا بالتأكيد بحاجة إلى أكثر من مجرد يوم للتسامح يُحتفل به سنوياً ثم ينساه الناس، والعالم العربي معنيّ بذلك أكثر من غيره.