محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

البحث عن البديل الناجع

مبكراً نسبياً في الزمن، نظم المجلس الوطني للثقافة والآداب في الكويت في يناير (كانون الثاني) 2013، ندوة بعنوان «ارتدادات الربيع العربي: ربيع العرب... ما له وما عليه!». عقدت الندوة في أجواء صخب «الربيع» وحيرة المتابعين لأحداثه. شارك في تلك الندوة التي أصبحت دراساتها في كنف كتاب منشور، خمسة وعشرون باحثاً من معظم الدول العربية، وجرت مناقشات غير محدودة السقف، لاكتشاف الأسباب والنتائج لذلك الحراك الكبير.
عُدت من جديد إلى ذلك السفر ودراساته، بعد ثماني سنوات تقريباً على ما كُتب حول «الربيع»، لأنظر فيما إذا كانت النخب العربية، أو بعضها على الأقل، قد أصابت أو أخطأت في ذلك الوقت المبكر فيما ذهبت إليه من احتمالات؛ حيث إن كل المشاركات كُتبت ولا ريب في الربع الأخير من عام 2012، فهي تحمل صورة ذهنية مبكرة لما يحدث.
انقسم المتحدثون في أغلب العناوين إلى قسمين؛ وجد بعضهم أن «الربيع» قد غير كل شيء، وآخرون وجدوا أنه لم يغير شيئاً! البعض وجد وقتها أن الأحداث ما زالت تتفاعل، وآخرون وجدوا أن ما هو قائم وقتها هو النهاية للحراك. بعضهم وجد أن الخطاب يُعرف من عنوانه، وأن ما هو موجود «غير مريح»، وأن التغيير الحاصل جرى في الشكل ولم يكن في المضمون. البعض وجد أن «الربيع» خلَّف في حده الأدنى ضعفاً في التساند العربي، وتفكيكاً لآلياته التي عرف بها فيما بعد الحرب العالمية الثانية، دون إيجاد بديل غير التكتلات الثانوية، مما يعرض الأمة إلى الانكشاف والمخاطر، وآخرون وجدوا أن ما يشاهد من أحداث ليس إلا «حلقة انتقالية لها ما بعدها»، وأن الربيع يرمم ما كان من تشوهات في الممارسة السياسية العربية، وقد استدعى الغائب أو المغيب المهمش للمساهمة في حاضره ومستقبله، وأن «تعديل توقيت الساعة العربية قد أزف»؛ بل ذهب بعضهم إلى تفاؤل فيما سماه «ردم الفجوة الديمقراطية» التي ألمت بالعمل العربي السياسي لفترة طويلة من الزمن! أما بعض المشاركات فقد وجدت أن ما يحدث لا يعدو أن يكون ردة فعل «لمظاهر إعاقة في العقل السياسي العربي»؛ حيث يعرف كثيرون ما لا يريدون، ولكن ليس هناك وفاق عام أو أكثري على ما يرغبون تمامه في بلاد «الربيع»، وهي جمهوريات التوريث، أو احتمال خلق مؤسسات جديدة تعمل كرافعة للعمل السياسي.
في توصيف الأسباب كان هناك شبه اتفاق بين الكُتاب على أن مظاهر اجتماعية واقتصادية أدت إلى «الفورة»، منها زيادة طاقة التوتر في المنطقة، وغياب العدالة الاجتماعية، وزيادة معدلات الفقر، وانخفاض في سقف الحريات، وتضخم في الفكر الخرافي، وزيادة في الطلب الاجتماعي على الحريات المدنية، وفشل كبير في خلق المؤسسات، كل ذلك أخل بالتوازنات التي كانت قائمة، وأدى إلى تفجر الموقف. توقعات مخرجات «الربيع» في تلك الندوة تراوحت بين ضبابية وطوبائية، وأن جذرها تنكر الدولة لأساسيات العقد الاجتماعي الحديث أو شبه الحديث، وساعد «الربيع» وقتها ما يعرف اليوم بالانتشار الأفقي الهائل للقوة التي نسميها شعبياً: «انتشار وسائل التواصل الاجتماعي».
ذلك ملخص كثيف، وقد يكون مخلاً، لمناقشات الندوة، وبعد ثماني سنوات، بماذا يمكن أن نفسر ما تم، وسيرورته التي تعيش معنا إلى اليوم؟ أن يكون التاريخ مجرد تعاقب أحداث، مليئة بالصخب والعنف وبلا غايات، هو فهم مخل لمسيرة التاريخ. نحن نستخدم التاريخ (الماضي) لنفسر (الحاضر) ونتوقع (المستقبل)، ما نشاهده اليوم من أحداث سياسية واجتماعية ونتائج اقتصادية ليست منفكة عما حدث قبل عقد أو يزيد، ولا هي منعزلة عما سيحدث في المستقبل. إننا ما زلنا كعرب، وخاصة في جمهوريات التوريث، في «مثلث برمودا» المضطرب، الذي أحدث ولا يزال جرحاً واسعاً في تلك البلدان، أصبح متقيحاً بسبب تدخلات إقليمية وعالمية، وبوصلة متذبذبة بجدارة في أماكن أخرى، ولا إشارة إلى المخرج من هذا المثلث المضطرب.
لقد اتصفت أحداث ما بعد الحرب العالمية الثانية في فضائنا العربي بسباق على السلطة، في أكثر من بلد، كان الوصول إلى السلطة والمحافظة عليها بواسطة القوة أو الحيلة، هو «الهدف» الأكثر وضوحاً للمتسابقين، بين أحزاب شبه عشائرية. لم يتبلور لدى الجميع مشروع للدولة الحديثة. جوهر الصراع حتى اليوم في ذيول «الربيع العربي»، يقع بين التوق إلى مدنية الدولة، وممانعة تمدن حركات الإسلام السياسي، فلا الدولة أصبحت حتى الساعة «مدنية» بالمعنى العام للمدنية الحديثة، ولا الحركات الإسلامية السياسية انفكت من شعاراتها شبه الغيبية، ورسمت طريقاً لدولة مدنية حديثة. في بعض الأماكن تغلبت الدولة العربية «المدنية الشكلية»، وتعطلت في أماكن أخرى متشبثة بمقولات ثبت على أرض الواقع أنها فارقت جوهر ما يطلبه الناس من حياة حديثة!
هذه الإشكالية الثنائية، حتى بعد ثماني سنوات، باقية معنا، وربما سوف تبقى حتى يتبلور المشروع الحديث والواضح، الذي يضع أمام الناس عقداً اجتماعياً جديداً، يساير ما استقر عليه العالم من حولنا في الشرق أو الغرب. ولكن حتى نصل إلى ذلك المكان، سوف يظل صراع الدم والسياسة متعاظماً، دون بوصلة ولا سكة طريق، كما أن الحمولة الثقافية العربية السياسية لم تناقش بعمق ذلك الأمر.
المطروح أمامنا اليوم، هو إعادة التنظيم العقلاني للمجتمع الذي يضع حداً للفوضى الدينية والفكرية والاستفراد السياسي، غير ذلك سوف يستمر النزاع تحت شعارات تلك المقولات، التي فُرغت من محتواها. مقولات مثل «ولاية الفقيه» أو «محور المقاومة»! «مقاومة مَن مع خراب الأوطان»! أو «أنصار الله» أو «أحزاب الله» أو «الإسلام هو الحل»! مقولات مرسلة أنتجت حتى الآن حروباً أهلية مدمرة، وصراعات سياسية منظورة أمامنا في كل بقعة من بقع الأرض العربية.
لا أدعى أن الأمر سهل، وميسور الوصول إلى خطوط عريضة للمشروع الوطني العربي الحداثي المرتجى، فولادته عسيرة، وهي عملية طويلة المدى تحتاج إلى عدد من الأدوات، حتى الآن غير متوفرة، كما أن مساره صراعي لا ريب، إلا أنه الطريق الصحيح للمستقبل، لمحاولة الخروج من المأزق الذي نراوح فيه كعرب منذ عقود من الزمن.
الاعتراف بأن هناك حقائق تحيط بنا لا مجادلة فيه، منها اتساع أفقي للقوة، من خلال وسائل التواصل التقنية، غير مسبوق، وغير ممكن اعتراضه، كما أنه يتشارك أكثر وأكثر مع الساحات البعيدة، في إطار مواطنة تتعدى الوطن، نشيطة فاعلة، ولا سقف لما يمكن أن تتركه من آثار. هناك من جهة أخرى نزاع على الفضاء العام العربي، تشارك فيه قوى إقليمية لها امتدادات حقيقية، أو حتى سيبرانية، في داخل النسيج العربي، في عالم عسر عليه احتكار المعلومة، وقفز التواصل على الحدود الممنوعة، في عالم لم تعد الخطورة فيه قادمة من «الآيديولوجيات» الأخرى، بقدر الخطورة في تفسير الدين نفسه من جهة، ومتطلبات الحياة الحديثة من جهة أخرى! عالم ينقسم على نفسه، عالم تصاب فيه الديمقراطية الليبرالية بعوار عميق في مراكزها الحضارية، وعالم يتحول من التعاون التجاري إلى الحروب التجارية. في هذا العالم المتغير بسرعة، يجد العرب أنفسهم أمام مشكلات غير مسبوقة، داخلية ومع الجوار، يعتقد بعضهم أن حلها يكمن في الأفكار القديمة والتشبث بما كان، وهي ليست حلولاً يقبلها قطاع واسع من العرب اليوم، لسبب واضح: أن العالم يتغير. الخيار الأوفق هو البحث عن بديل ناجع يحقق الحد الأدنى من الحداثة المرجوة، بكل أو بمعظم شروطها المعروفة! وعلينا أن نطرح ذلك للحوار العام!
آخر الكلام: من مظاهر التناقض الحاد والمشاهد في الساحة العربية، أن قوى تحارب سطوة الأصولية الدينية في السياسة، وتسلم التيارات المحافظة السلطة على الثقافة!