راجح الخوري
كاتب لبناني
TT

فصل جديد من الفوضى الدموية؟

هل يكون مستشار الأمن القومي جون بولتون، المرشح الجديد للاستقالة من منصبه في البيت الأبيض، بعدما سبقه أخيراً وزير الدفاع جيمس ماتيس، اعتراضاً على قرار الرئيس دونالد ترمب الانسحاب من سوريا؟
إنه السؤال الساخن الآن في كواليس الإدارة الأميركية، بعدما اتخذ ترمب قراره المفاجئ بسحب كل القوات الأميركية من سوريا، وأيضاً سبعة آلاف جندي من أفغانستان من دون أن يستشير أحداً أو يأخذ رأي «البنتاغون»، وهو ما أثار امتعاضه وكذلك امتعاض وزير الخارجية مايك بومبيو وعدد كبير من الجنرالات، الذين يدعون إلى الحفاظ على الوجود العسكري في سوريا، أولاً لإكمال هزيمة «داعش»، وثانياً لدفع إيران وأذرعها المسلحة إلى الانسحاب وفقاً للموقف الأميركي الذي أعلن تكراراً.
ماتيس عسكري بارع قرر الرحيل بعدما أعلن ترمب قرار الانسحاب السريع من سوريا الذي يشبه هروباً من الميدان، قائلاً إن وجهة نظره كوزير للدفاع لم تتوافق مع ما يفكّر فيه ترمب، الذي ردّ بقصفه باتهامات قاسية، كما حصل مع عشرات المسؤولين الذين فروا من سفينته، لأنهم يعتقدون أنها تندفع إلى أرخبيل من الصخور!
كان استياء بولتون واضحاً ومحرجاً للرئيس، فعندما أثار إعلان ترمب عاصفة من التعليقات في واشنطن، تعمّد بولتون أن يغرّد عن ألبانيا، فأشاد برئيس وزرائها إيدي راما لأنه طرد السفير الإيراني، مثنياً على «عدم تسامحه مع الدعم الذي يقدمه قادة إيران للإرهاب»، ومؤكداً دعم أميركا لألبانيا في وجه السلوك الإيراني المتهوّر، وهو ما بدا متناقضاً تماماً مع قرار الانسحاب الذي يخلي الساحة السورية للإيرانيين وأذرعهم العسكرية!
ماتيس ليس الأخير الذي يفرّ من الإدارة الأميركية بسبب غرابة قرارات الرئيس، والتي كان من الطبيعي أن تؤدي إلى ما شهدته إدارته من إقالات واستقالات لكبار المسؤولين، وهو ما يذكرني مثلاً بما كتبه المفكّر الأميركي جون تشاينبك في الخمسينات: «عندما أنظر إلى مداخن البيت الأبيض أحسبها فبركة كبيرة للأوهام»!
لكن ما هو أخطر أن حالة عدم اليقين في الإدارة الداخلية، باتت تغلب على السياسة الخارجية الأميركية لسببين؛ أولاً التأزم المتزايد في العلاقات مع روسيا والصين، وكذلك مع الحلفاء الأطلسيين، وطبعاً مع المكسيكيين والجيران اللاتينيين، وثانياً بسبب النزعة المتزايدة إلى روح «مبدأ مونرو»، فإذا كان باراك أوباما قد اعتمد سياسة التردد ومحاذرة التدخل في الأزمات ومنها طبعاً الأزمة السورية، فإن ترمب يطبق سياسة إقالة الولايات المتحدة من دورها المهم في الأحداث والتطورات الدولية، ويعمل كما يبدو على سحبها من المسرح الدولي، وهو ما يتعارض تماماً مع شعار ترمب «لنُعِد إلى أميركا عظمتها»!
في كل الأحوال إذا كانت حالة عدم اليقين هذه تسيطر على معظم المسؤولين في الإدارة الأميركية، فإنها باتت تسيطر أيضاً على علاقات دول كثيرة مع أميركا، ولعل أفضل تصوير لهذه الحال، هو ما حصل بعد إعلان ترمب عزمه سحب سبعة آلاف جندي من أفغانستان، رغم توصية «البنتاغون» بضرورة تعزيز الوجود الأميركي هناك، بعد هجمات طالبان في الأشهر الماضية، فقد نشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» قبل يومين، قصة ذات مغزى، وهي أنه عندما ذهب ريتشارد سبنسر سكرتير البحرية الأميركية، وروبرت نيلر قائد مشاة البحرية «المارينز» إلى كابل بعد قرار الانسحاب، سأل أحد الجنود الأميركيين نيلر: «سيدي ماذا يعني قرار الانسحاب من أفغانستان»، فقال له نيلر: «هذا سؤال وجيه، والجواب الصادق أنه ليس عندي أي فكرة»، ما يعني أن الامتعاض في «البنتاغون» مثل امتعاض هذا الجندي على الأرض، ومثل امتعاض ماتيس المستقيل وبولتون وبومبيو!
بالعودة إلى قرار الانسحاب من سوريا، ليس من المبالغة القول إن هذا الأمر سيعيد خلط الأوراق والحسابات، وقد يكون منطلقاً للفوضى الشاملة، من منطلق أن الفراغ الذي سيتركه سيؤجج جبهات جديدة، ويحرك رهانات جديدة عند القوى المتقاطعة فوق الشطرنج السوري.
ولن تكون النتائج بالضرورة مطابقة للحسابات السعيدة في تركيا، والتي تكاد تطير فرحاً بقرار ترمب، من منطلق رهانها أولاً على سحق الأكراد الذين «يتركهم ترمب أيتاماً بلا غطاء جوي يحميهم»، كما تجمع التعليقات، رغم كل الانتصارات التي حققوها على «داعش»، وثانياً على أن يوفّر الانسحاب الأميركي فرصة إقامة «كوريدور» عريض على امتداد حدودها مع سوريا والعراق، يتيح لرجب طيب إردوغان ممارسة أحلامه العثمانية المتصاعدة.
الآن بعد عامين من العلاقات المأزومة مع واشنطن، يسيطر إحساس بالنشوة في أنقرة، فها هو إبراهيم قالين المتحدث باسم الرئاسة التركية، لا يتردد في القول إن تفعيل الانسحاب الأميركي جاء خلال «المكالمة التاريخية» بين إردوغان وترمب في 14 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وبعدما «دفع إردوغان ترمب إلى اتخاذ هذا القرار بدواعٍ مقنعة»، بينما كان وزير الدفاع التركي خلوصي أكار يقول إن المسلحين الأكراد سيدفنون في خنادقهم في الوقت المناسب.
لكن الواقع أن وفداً من «مجلس سوريا الديمقراطية»، كان قد بدأ سراً المفاوضات في موسكو، وسط تأكيدات الهيئة التنفيذية لقوات «قسد» بأن هناك مفاوضات أيضاً مع الحكومة السورية، وعدد من الدول الأوروبية أعضاء «التحالف الدولي»، حول آليات التعامل مع الانسحاب الأميركي والتحفّز التركي للاندفاع جنوباً، وذلك من منطلق الرهان على أنه رغم كل التفاهمات بين «الثلاثي الضامن» أي روسيا وإيران وتركيا، سيظل من مصلحة موسكو أن تُذكّر إردوغان بأن الكلمة الأولى تبقى لها في الساحة السورية، وهذا يعني معارضتها إطلاق يد تركيا في شمال سوريا.
وهذا ما قد يجعل النشوة التركية مبكّرة جداً، وخصوصاً مع تحرّك النظام السوري لمواجهة أي اعتداء تركي وإعلان وليد المعلم أن القوات السورية ستتصدى لأي تركي في أراضيها!
ترمب يقول إن «داعش» هُزم إلى حدٍ كبير وغرّد «إردوغان أبلغني بقوة أنه سيجتثّ كل ما تبقى من (داعش) في العراق وسوريا»، وهذا ما أثار السخرية في التعليقات الأميركية، التي ذكّرت بدور تركيا المسهل لوصول الإرهابيين والدواعش إلى سوريا، وبأنها وفّرت لهم التحرك والسلاح وتلقي العلاج في أراضيها.
ولعل من المصادفات المثيرة أن تنفجر قصة مصادرة الباخرة التركية التي كانت تنقل السلاح إلى الدواعش في ليبيا، والتي تمّ ضبطها في ميناء «الخمس» بعد ثلاثة أيام من المكالمة الهاتفية بين إردوغان وترمب، وتحديداً يوم 17 ديسمبر الحالي، حيث قال فتحي المريمي المستشار الإعلامي لرئيس مجلس النواب الليبي، إن زيارة وزير الخارجية التركية مولود جاويش أوغلو إلى ليبيا، كانت للتستر على قصة شحنة السلاح التي كانت في طريقها إلى الجماعات الإرهابية، وهو ما نددت به بعثة الأمم المتحدة ووصفته بأنه أمر مقلق، بينما طالب الجيش الوطني بفتح تحقيق دولي في الدور التركي.
ومع التدخلات والسيطرة الميدانية الإيرانية على مناطق واسعة من سوريا، ومع خطط موسكو العميقة لمستقبل سوريا، يأتي الانسحاب الأميركي لا ليشعل الضوء الأخضر أمام رغبة إردوغان بسحق الأكراد وتوسيع أحلامه العثمانية من الشمال السوري إلى الغرب العراقي، بل ليشعل الضوء الأحمر خوفاً من فوضى المنافسة الشاملة على الجبنة السورية، في وقت عادت قطط الدواعش لتطلّ برأسها كما حصل أخيراً في ريف دير الزور والميادين!