محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

عام أم عقد أم قرن!

عندما تجلس لتكتب لقرائك عن انطباعاتك عن أحداث عام مضى، وتفكر في مفردات الأحداث، تختلط عليك الصورة، وأنت تنظر إلى المسرح العربي وأزماته. تحتار: هل أنت أمام أحداث عام مضى، أم عقد مضى أم قرن مضى. وإن استعرضنا المشهد بكامله تنساب أمام ناظريك أحداث، وكأنها شريط متصل تتوالى أحداثه، من سنة إلى عقد إلى قرن، متصلة وغير منفصلة، على الأقل من وجهة نظري الشخصية، وأهمها ثلاثة:
أول الأحداث المتصلة هي تأثير «الإسلام السياسي»، فهو حركة سياسية متكئة على تفسيرها (الإسلام)، وبقيت معنا نحو قرن تقريباً، نشأت جزئياً في العقد الثاني من القرن العشرين، كردة فعل على سقوط الخلافة العثمانية، وتدخل غربي في الفضاء العربي.
الإسلام السياسي في التأثير على المشهد يشتد ويضعف بين فترة وأخرى من القرن المنصرم، إلا أنه بقي معنا طوال هذا القرن، وما زال بعضه يؤثر ظاهراً أو باطناً، وتمثَّل في أنظمة تمثيلاً واضحاً، أو مختلطاً بعناصر أخرى. المثال هنا النظامان التركي والسوداني، ولا أخرج النظام الإيراني مع اختلاف لونه النسبي من هذه المدرسة. وهناك جماعات ضاغطة منه في بعض بلداننا، من بينها جماعة «النهضة» في تونس، و«حزب الله» في لبنان، وجماعة الحوثي في اليمن، وجماعات أخرى، كل هذا القوس قزح (الإسلام السياسي) يحمل فكرة قديمة جديدة. هدفه «إعادة الخلافة»! وعلى الرغم من مرور قرن، لم يفلح هذا الفكر في تحقيق تلك الفكرة؛ لأنها خارج التاريخ، ولم يستطع في الوقت نفسه تقديم نموذج ناجح ومستقر في حال وصوله إلى الحكم. في مرحلة، ظن كثيرون أن تركيا في مطلع هذا القرن الحالي قد تكون المثال الناجح، ولكن بعد تطور الأحداث ونكوص حقيقي عن مبادئ الديمقراطية، وكثير من المعتقلين من القضاة والصحافيين والعسكريين، وتدني سقف الحريات، وطغيان لون من القومية التركية في الأداء السياسي (الحرب على الأكراد المسلمين) وشهوة لا تخفى في الهيمنة، لم يعد هذا النموذج يحمل إغراءه الأول.
الحقيقة أن كل الأداء السياسي للإسلام السياسي مأزوم، في السلطة وفي المعارضة، وهو يشهد تقريباً موته الآيديولوجي، والموت يفجر الأزمة. هذه الأزمة تتجلى في الصراع القائم اليوم، وفي معظمه موجه إلى المملكة العربية السعودية، في حملة من مجمل «الإسلام السياسي» الأصولي، ولأسباب من وجهة نظرهم «جوهرية»، فالسعودية تمثل البلد الذي يحتضن المدن المقدسة، وكان الإسلام السياسي، في فترات مختلفة، يراهن على أن تكون المملكة قاعدة له، وإن لم تكن فنصيرة، وإن لم تكن فخالية تماماً من مشروع تحديثي نهضوي. فالهدف من الهجوم الضاري من الإسلام السياسي، تعطيل نهضة تحديثية في السعودية، التي تسعى بجهد واضح إلى تطوير المناعة ضد الأصولية المؤدلجة، وإعادة الاعتبار للدين بعد تخليصه من الفكر الأصولي. هذا المشروع ليس مناسباً للإسلام السياسي، ويشن عليه حرباً؛ لأن البلد مركز ثقل في العالم الإسلامي، يستطيع أن يقدم مشروعاً حداثياً غير مشوه ولا هو توسعي. ذاك ما يتكتل الإسلام السياسي الأصولي ضده، فبعد قرن تقريباً من دعوة إحياء الخلافة المستحيلة، يظهر مشروع حداثي ومضاد للإسلام الأصولي، على هذه الساحة تدور المعركة، وتظهر في أكثر من صورة، وعلى أكثر من وجه.
ثاني الأحداث الممتدة هو استعصاء الدمقرطة، فقد شهدت بلدان عربية في العام الماضي وما قبله أشكالاً من الانتخابات، التي وصل معظمها، وربما كلها، إلى طريق مسدود، في العراق ولبنان وتونس، وهي أيضاً تنسحب على عقد مضى، وربما قرن مضى، فالعراق الحديث الذي نشأ قبل مائة عام تقريباً، يدخل في كل بضعة عقود إلى أزمة مستحكمة، وكثيراً ما يُستدعى عند الحديث عن العراق ما نقل عن الملك فيصل الأول، أن «العراقيين سماعون للسوء، ميالون إلى الفوضى»! ربما مبالغة، ولكنه توصيف لافت. وفي كل عهد مر على العراق، نجد أن السلطة تحتمي بالعنف (كثر أو قل) من أجل استتباب السلم الاجتماعي الظاهري. وفي السنوات الأخيرة، نجد أن العراق من جديد لا يتسق معه أي نظام سياسي، فأنتج اليوم مسرحاً سياسياً ميليشياوياً، معطلاً شروط الدولة الدستورية، عدا فقدان شروط التنمية المرجوة.
في مكان آخر هو لبنان، يمتد الاستعصاء أيضاً عقداً وقرناً من الزمان، حتى ظهر شعار فيه سخرية، وذلك عند احتفال لبنان بالعيد الخامس والسبعين للاستقلال، عندما انتشر قول: «إن فرنسا تحتفل بالعيد الخامس والسبعين للتخلص من عبء لبنان»! على مرارة ذلك التعبير، فالوضع اللبناني اليوم، مع تأخير، وربما عدم قدرة، على تشكيل حكومة، وفوضى اقتصادية ضاربة، وتجاذب ليس له سقف، وفي بعضه لا تحده أخلاق، بمجرد خروج لبنان من «الإرث العثماني» دخل بشكل شبه دوري في حروب أهلية، إما ساخنة وإما باردة. أدى ذلك بوضوح إلى ضعف «الشعور الكلي الوطني»، ويتناسى اللبنانيون في تاريخهم مؤتمر الحجير الشهير عام 1920؛ حيث أعلن التحاق جبل عامل الشيعي، بالدولة العربية في دمشق، وذهب وفد المؤتمر لمبايعة الملك فيصل! الجماعة نفسها بعد نصف قرن، تعلن ولاءها لطهران، دون شعور بالتناقض.
الاستعصاء يتبلور في تونس التي تحمل أيضاً عبء ليس عقد ولكن ربما قرن من المراوحة. وقد بدا للبعض أن تونس في العقد الأخير هي أيقونة «نجاح» الربيع العربي، وظهر جلياً أنها قد تكون أيقونة الفشل، فيما تعانيه من تردٍ في الاقتصاد والسياسية والإدارة، تجلى أخيراً في ظاهرة حرق النفس! الظاهرة الأعم للثلاثية هنا، هو عدم قدرة على بناء الوطن الدستوري!
ثالث الأحداث هو عودة «القوى الأجنبية»، فبعد نضال للخروج من نطاق العثمانية، والتخلص من الاستعمار الغربي، عاد بعض العرب، بعد قرن، ليجدوا أن بعضهم يرحب باحتلال جديد، هذه المرة قد يكون تركياً أو إيرانياً أو روسياً أو غيره، مما تسميه أدبيات دمشق على سبيل المثال «القوات الرديفة والحليفة»؛ بل ويخرج مسؤول في دمشق ليقول إن السوريين، ليسوا هم من يحملون الجنسية السورية؛ بل هم من يحملون السلاح للدفاع عن النظام، بمن فيهم «الجماعات الرديفة والحليفة القادمة من خلف البراري»!
إنها عينة صغيرة من أحداث قرن، عقد، سنة، وتخطيت ما حدث ويحدث في فلسطين، وتقسيم السودان، وأزمة اليمن، فكلها جميعاً في الغالب لها بعد يمتد إلى قرن، ولها جذر الأزمة نفسه، ونتائجها تحيط بنا اليوم، تتغير التسميات، ولكن صراع التحديث هو القائم، فأي سنة نودع، وأي قرن عشناه!
آخر الكلام: حتى الطبيعة في العام المنصرم أظهرت غضبها، فكانت الحرائق الكبرى، والعواصف الهوجاء، والزلازل، والأمطار، وأخيراً التسونامي! ومن المؤكد أن الخلل في البيئة قد يؤدي إلى اضطراب سياسي.