خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

تاريخ مضرج بالدماء

أشرت في مقالات سابقة إلى العلاقة اللغوية بين بريطانيا وفرنسا. ولكن إشارتي لم تكن غير نتفة عابرة من العلاقات الصاخبة بين البلدين. كان ذلك تاريخاً يغص بالحروب الدموية التي امتدت عبر البحار ولا سيما في العالم الجديد، حيث سعى الطرفان للسيطرة عليه بعد أن نفضت إسبانيا يديها من القارة الأميركية. والواقع أن إنجلترا كانت في القرون الوسطى قد استولت واستعمرت غرب فرنسا، وأقام ملوك إنجلترا عرشهم فيها. وكانت هذه خلفية قصة جان دارك، الصبية الفرنسية التي استطاعت لم فلول شعبها وعبأتهم لمحاربة الإنجليز وطردهم من فرنسا، ولكن الإنجليز تآمروا عليها في الأخير وألقوا القبض عليها وحاكموها بالإعدام حرقاً بتهمة السحر والشعوذة.
وفي القرن الثامن عشر، وجدت نفسها مشغولة بمحاولة قمع الثورة الأميركية، والحرب الأهلية في أميركا الشمالية. نظر الفرنسيون لذلك كفرصة مواتية للانتقام من الإنجليز. فأرسلوا الإمدادات وساعدوا الثوار بصورة مكثفة. كللت مساعيهم بدحر الإنجليز وطردهم من أميركا. وبذلك أخذت فرنسا بالثأر من الإنجليز الذين تمكنوا بدورهم من طرد الفرنسيين من كندا. حاولت كلتا الدولتين السيطرة عليها، بيد أن إنجلترا تفوقت ولم تبقِ لفرنسا من تلك الديار غير ولاية كيبيك التي ظلت فرنسية وما زالت تتكلم بالفرنسية حتى اليوم.
حاول الجنرال مونكالم، قائد القوات الفرنسية في تلك الساحة أن يخوض قتالاً دامياً ضد الإنجليز للسيطرة على كندا. بعث مساعده الجنرال يوكنفيل إلى باريس ولكنه لم يوفق في إقناع لويس الخامس عشر بإرسال ما يكفي من إمدادات وقوات فرنسية للانتصار على الإنجليز الذين كانوا يعتمدون على الأمريكان في الجنوب. ولكن الملك لويس الخامس عشر كان مشغولاً في منازعات على أبواب بلاده في القارة الأوروبية، ولم يستقبل حتى الجنرال يوكنفيل، واكتفى بإحالته إلى وزيره الذي قابله بكل برود قائلاً إن فرنسا مشغولة في حروب أوروبا، موضحاً: «يا سيدي الجنرال، عندما تشتعل النار في البيت، لا تفكر لما يجري في الاصطبل»!
أجابه الجنرال يوكنفيل قائلاً: «الحقيقة يا سيدي الوزير، نعم، نفهم لماذا يقول عنك الناس بأنك تفكر تفكير الخيل»!
لم يستجب للطلب. ولم يبعثوا بأي مساعدات عسكرية لكندا. وهكذا تمكنت بريطانيا من طرد الفرنسيين من كندا وتثبيت قبضتها عليها. لم يبق بيد الفرنسيين غير ولاية كيبيك، كما أشرت أعلاه. وعبر السنين حاول أهل كيبيك الفرنسيون الانتفاض على الإنجليز ولكنهم أخفقوا في محاولاتهم من أجل شعار «كيبيك حرة».
ظلت فرنسا مشغولة بالأمور القريبة من ديارها، وسرعان ما نشبت الثورة الفرنسية التي أغرقت البلاد في عهد الإرهاب ومنازعات وحروب مريرة أفضت أخيراً إلى دخول نابليون في الساحة، وبالتالي إلى خوض مغامرات طائشة عبر القارة الأوروبية برمتها. وقفت إنجلترا هنا أيضاً بوجه فرنسا حتى تمكنت من دحر نابليون واعتقاله ثم نفيه.